قصة شهيرة لمولانا جلال الدّين الرومي
موسى والراعي
رأى موسى راعياً على الطريق وكان هذا يردد :
" إلهي يامن تصطفي من تشاء
أين أنت حتى أصبح خادماً لك فأصلح نعليك وأمشط رأسك !
وأغسل ثيابك وأقتل ما بها من القمل وأحمل الحليب إليك ، أيها
العظيم !
وأقبّل يدك اللطيفة وأمسح قدمك الرقيق ، وأنظّف مخدعك حين
يجيء وقت المنام .
يا من فداؤك كل أغنامي ! ويا من لذكرك حنيني وهيامي !
"
وأخذ الراعي يردد هذا النمط من هراء القول .
ورآه موسى فناداه قائلاً : " مع من تتحدث أيها الرجل
؟ "
فقال الراعي : " مع ذلك الشخص الذي خلقنا . مع من ظهرت
بقدرته هذه الأرض وتلك السموات " .
فقال موسى : " حذار ، إنك قد أوغلت في إدبارك ، وما
غدوت بقولك هذا مسلماً بل صرت من الكافرين
ما هذا العبث وما هذا الكفر والهذيان ؟ ألا فلتحشُ فمك بقطعة
من القطن .
إن نتن كفرك قد جعل العالم كلّه منتناً ! بل أن كفرك قد مزّق
ديباجة الدين !
إن النعل والجورب يليقان بك . ولكن متى كان مثل هذين يليقان
بالشمس ؟
فإن لم تغلق حلقك عن مثل هذا الكلام ، فإن ناراً سوف تندلع
وتلتهم الخلق !
وإن لم تكن النار قد اندلعت فما هذا الدخان ؟ ولماذا أصبحت
نفسك مسودة وروحك مردوداً ؟
وإن كنت تعلم أن الله هو الحاكم ، فكيف اعتقدت بمثل هذا السفه
والوقاحة ؟
إن صداقة الحمق هي عين العداوة . وما أغنى الحق تعالى عن
مثل هذه العبادة !
فمع من تتحدث ؟ أمع العم أم الخال ؟ وهل الجسم والحاجة من
صفات ذي الجلال ؟
إن الحليب يشربه من يكون قابلاً للنشأة والنماء . والنعل
يلبسه من هو بحاجة إلى القدم .
وحتى لو كان من القيل والقال موجها لعبد الله الذي قال عنه
الحق : " انه ذاتي وأنا ذاته "
هذا العبد الذي هو مغزى حديث الحق : " مرضت فلم تعدني
. لقد غدوت مريضاً ، وليس عبدي وحده هو الذي مرض "
لكان مقالك هذا عبثا وهراء في حق هذا العبد بعد أن غدوت له
سمعاً وبصراً
إن التحدث بدون أدب مع خواص الحق يميت القلب ويجعل الصحائف
سوداً .
فمع أن الرجال والنساء جميعاً من جنس واحد ، فإنك لو سمّيت
رجلاً " فاطمة " ،
لسعى لقتلك إن وجد إلى ذلك سبيلا ، مع أنه قد يكون حسن الخلق
حليما وادعا .
إن اسم فاطمة مدح في حق النساء ، لكنك لو دعوت رجلاً به كان
كطعن السنان !
واليد والقدم هما في حقنا من صفات المديح ، لكنهما في حق
الخالق المنزه ذم !
وقوله " لم يلد ولم يولد " هو الوصف اللائق به
، مع أنه خالق الوالد والمولود .
وكل ما كان جسما فالولادة صفة له . وكل ما يولد فهو من هذا
الجانب من النهر .
ذلك لأنه من عالم الكون والفساد ، فهو مهين . ومن المحقق
أنه حادث ويقتضي محدثاً "
فقال الراعي : يا موسى ، لقد ختمت على فمي ! وها أنت ذا قد
أحرقت بالندم روحي !"
ومزّق ثيابه ، وتأوه ، ثم انطلق مسرعاً إلى الصحراء ، ومضى
فجاء موسى الوحي من الله قائلاً : " لقد أبعدت عني واحداً
من عبادي !
فهل أتيت لعقد أواصر الوصل ، أم أنك جئت لإيقاع الفراق ؟
فما استطعت لا تخط خطوة نحو إيقاع الفراق ، فأبغض الحلال
عندي هو الطلاق !
لقد وضعت لكل إنسان سيرة ، ووهبت كل رجل مصطلحاً للتعبير
، يكون في اعتباره مدحاً على حين أنه في اعتبارك ذم . ويكون في مذاقه شهداً وهو في
مذاقك سم !
إنني منزّه عن كلّ طهر وتلوث ، وعن كلّ روح ثقلت في عبادتي
أو خفّت .
والتكليف من جانبي لم يكن لربح أنشده . لكن ذلك كان لكي أنعم
على عبادي .
فأهل الهند لهم أسلوبهم في المديح . ولأهل السند كذلك أسلوبهم
.
ولست أغدو طاهراً بتسبيحهم ، بل هم المتطهرون بذلك ، الناثرون
الدر .
ولسنا ننظر إلى اللسان والقال ، بل نحن ننظر إلى الباطن والحال
.
فنظرنا انما هو لخشوع القلب ، حتى لو جاء اللسان مجرداً من
الخشوع .
فالقلب يكون هو الجوهر ، أما الكلام فعرض . والعرض يأتي كالطفيلي
أما الجوهر فهو المقصد والغرض .
فإلى متى هذه الألفاظ وذلك الإضمار والمجاز ؟ إني أطلب لهيب
الحب ، فاحترق ، وتقرّب بهذا الاحتراق!
أشعل في روحك نارا من العشق ، ثم احرق بها كل فكر وكل عبارة
!
يا موسى ! ان العارفين بالآداب نوع من الناس ، والذين تحترق
نفوسهم وأرواحهم نوع آخر "
إن للعشاق احتراقا في كل لحظة ! وليس يفرض العشر والخراج
على قرية خربة !
فلو أنه أخطأ في القول فلا تسمّه خاطئاً . وإن كان مجللاً
بالدماء ، فلا تغسل الشهداء .
فالدم أولى بالشهداء من الماء ! وخطأ المحب خير من مائة صواب
!
فليس في داخل الكعبة رسم للقبلة .
وأي ضرر يحيق بالغواص إن لم يلبس النعل الواقي من الغوص في
الثلوج ؟
فلا تلتمس الهداية عند السكارى . وكيف تطلب من تهلهلت ثيابهم
رفو تلك الثياب ؟
إن ملّة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان . فمذهب العشاق
وملتهم هو الله .
ولو لم يكن للياقوتة خاتم فلا ضير في ذلك . والعشق في خضم
الأسى ليس مثيراً للأسى !
ولقد ألقى الله – بعد ذلك
– أسراراً في أعماق قلب موسى ، ليست مما يباح به .
لقد تدفقت الكلمات إلى قلب موسى ، وامتزج الشهود بالكلام
.
فكم ذهل عن ذاته وكم عاد إلى الوعي ! وكم طار محلقاً من الأزل
إلى الأبد !
فلو أنني شرحت أكثر من هذا لكان من البلاهة . ذلك لأن شرح
هذا يتجاوز علمنا .
ولو أنني ذكرته لاقتلعت العقول ! ولو أنني كتبته لانشق كثير
من الأقلام !
فحين سمع موسى هذا العتاب من الحق ، هرع وراء الراعي موغلاً
في البيداء .
وانطلق مقتفياً آثار قدمي ذلك الحيران . فكان ينثر الغبار
من أذيال الصحراء .
وإن خطوة قدم الإنسان الموله لهي متميزة عن خطى الآخرين
.
فتارة يمضي مستقيماًكالرخ من القمة نحو القرار . وتارة يمضي
بخطى متقاطعة مثل الفيل .
وتارة يمضي كالموج متطاولاً رافعاً علمه ، وتارة يمضي زاحفاً
فوق بطنه كالسمكة .
وتارة يخط وصف حاله فوق التراب ، كالرمّال الذي يضرب الرمال
.
وفي النهاية أدرك موسى الراعي ورآه ، وقال البشير للراعي
: "إن الإذن قد جاء !
فلا تلتمس آ داباً ولا ترتيباً ، وانطق بكل ما يبتغيه قلبك
الشجيّ !
إن كفرك دين ، ودينك نور للروح ! وإنك لآمن ، والعالم بك
في أمان !
أيها المعافى ! إن الله يفعل ما يشاء . فاذهب ، واطلق لسانك
بدون محاباة "
فقال الراعي : " يا موسى . إني قد تجاوزت ذلك . إنني
الآن مجلل بدماء قلبي !
لقد تجاوزت سدرة المنتهى . وخطوت مائة ألف عام في ذلك الجانب
!
إنك قد أعملت سوطك ، فدار حصاني ، فبلغ قبة السماء ، ثم تجاوز
الآفاق !
فعسى الله أن يجعل جوهرنا الإنساني نجي سر لاهوته . وليبارك
الله لك يدك وساعدك !
فالآن قد تجاوز حالي نطاق القول . فهذا الذي أقوله ليس حقيقة
حالي " .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق