المنشورات

السبت، 20 ديسمبر 2014

شمس تبريزي بين الدنيا والآخرة

شمس تبريزي بين الدنيا والآخرة
بقلم: خالد محمد عبده
عندما أطلّ وجه حبيبي الشبيه بالقمر من أكون أنا؟ من أنا؟
فقد وُجِدتُ في تلك اللحظةِ وأنا بلا ذات
[الرومي-المجالس السّبعة].


نحفظ جملة من الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، منذ نعومة أظفارنا، أغلبها يزهّد في الدنيا ويرى فيها دار شر وشهوات، ولا يرى الخير إلاّ في الآخرة دار البقاء والنعيم الأبدي، وعلى قدر ما يزهد الإنسان في الدنيا يقترب من نعيم الآخرة، فالتعلق بالدنيا تعلّق بالزائل والوهم ينبغي التطهّر منه.
 ومن جملة هذه الأحاديث التي نربط بينها وبين هذه المعاني : "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر" والحديث عند أهل الصناعة الحديثية صحيحٌ، رواه الإمام مسلمُ في صحيحه في كتاب الزهد والرقائق، وهو عند الصوفية من الأحاديث التي يُعوّل عليها في تأسيس التصوف على سنة النبي، ويحلو لكل من يكتب عن مصدرية التصوف الإسلامي أن يستند إلى هذا الحديث، ليؤصّل التصوف في الإسلام، ويدافع عنه ضد من يرى أن التصوف دخيل، أو أنه يرتد إلى الحضارات السابقة هندية كانت أو غيرها.
ويلفت النظر في كلام شمس صنو مولانا جلال الدين الرومي وسر ميلاده العرفاني أنه يعلق على هذا الحديث بما يجعلنا نقف قليلاً معه لكتابة هذه السطور، يقول شمس في كتاب المقالات المنسوب إليه: "يدركني العجبُ من هذا الحديث (الدنيا سجنُ المؤمن) لأنني لم أر سجنًا، بل رأيتُ سعادةً، رأيتُ كلّ عِزّةٍ، رأيتُ كُلَّ حُظوةٍ" وفي سياق آخر من المقالات يقول: " لم أقلقْ من أيٍّ من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام إلاّ من هذا الحديث، لأنني لم أر سجنًا".

من يتابع سيرة شمس كما ترويها المصادر يعرف أنه لم يكن يستقر في مكان، وظلّ يبحث عن الصُحبة والتحقق عمرًا طويلاً، ومن مكان إلى مكان ينتقل ولا يجد ما يبحث عنه. وكيف كان شمس يحيا في سعادة ويتمنى الموت ويرى فداءه في قوله تعالي: "فتمنوا الموت"؟! فمن كلامه في المقالات: "إذا كان لديك الضياءُ والوجدُ الذي يجعلك مشتاقًا إلى الموت فبارك الله فيك، وهنيئًا لك، ولا تنسانا من دعائك، وإن لم يكن لديك مثل هذا النور والوجدُ فتدارك واطلب واجتهد؛ ذلك لأن القرآن يخبر بأنك إذا طلبت مثل هذه الحالة ظفرت بها، لكن اطلب "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" ومؤمنين، ومثلما أنه من الرجال صادقون ومؤمنون يطلبون من النساء مؤمناتٌ وصادقات".
نلاحظ أن الرومي يتفق مع شمس في نظرته للموت وفرحه به، لكنه ينطلق من فكرة أن الدنيا سجن، والجسد نفسه سجن للروح:
يا من تطيرُ من هذا القفص الضيق وتشدُ الرحال إلى ما فوق الفلك
انظر إلى الحياة الجديدة بعد هذا إلى متى تتحمل حمق هذه الدنيا
إن لباس هذا الجسم من شأن الغلمان فارتد قميص العظمة
الموتُ حياةٌ وهذه الحياة موتٌ لكن نظر الكافر يُظهر العكس
إن جملة الأرواح التي غادرت هذا الجسد حيّة ومتواريةٌ الآن مثل الملائكة
فإن تهدّم منزلُ الجسمِ فلا تتألم واعلم أيّها السيدُ أنها مجرد باب للسجن
وعندما تخرج من السجن ومن غيابة الجُبِّ تكونُ مثل يوسف المصري ملكًا ورئيسًا.
يتسق قلق شمس تبريزي من حديث "الدنيا سجن المؤمن" مع منهجه ورؤيته للتصوف، فهو وإن كان صوفيًّا قد استغرق في المحبة وعاش تجربة العشق وصار ثملاً جوّالا، لا يستقر في مكان ويطلب المزيد ويطمح إلى التجريد، إلاّ أنه لم يسلّم بما سلّم به السابقون، ولم يكن راضيًا عن أحد من السابقين أو المعاصرين، ولم يكن يرى في أحدهم من يستحق أن يصبح شيخًا صوفيًا له أو يُنظر إليه بعين التبجيل!
فالشيخ الأكبر رضي الله عنه الذي وصف بالكبريت الأحمر انتقده شمسُ ورآه غير متابع لطريق النبي الأكرم ورأى كثيرًا من أفعاله خطأ بيّنًا! وكذلك لم يكن يرى البسطامي في عداد الأولياء وكثيرًا ما وجّه النقد إليه ورغم أنه في لقائه الأول بالرومي سأله عن أقوال البسطامي، وشرح له الرومي معانيها إلاّ أنه ظل ناقدًا لكثير من أقوال البسطامي كما يتضح ذلك من خلال المقالات التي رويت عنه.
 كما وجّه شمسُ نقدًا عنيفًا لمشايخ عصره، ولم يرض بأن يكون مريدًا خانعًا لأحدٍ منهم، على الرغم من معاصرته لأولياء كبار، وتوصف مدينته بأنها مدينة الأولياء.
وعليه فليس بمستغربٍ أن يرفض شمس ما قَبِلَه بعضُ العُبّاد والزُهّاد من رؤية الدنيا سجن، ورؤيته لها محل سعادة وسرور. ويمكن أن نلتمس في كلام سيدي علي الخواص ما يجلّي لنا معاني كلمات شمس السابقة، فمن جملة الأسئلة التي توجّه الإمام الشعراني بها إلى شيخه الخوّاص سؤالاً يتعلق بهذا الموضوع، حفظه لنا الشعراني في كتابه الجواهر والدرر.
يقول الشعراني: سألتُ شيخنا فأيّما أكمل في النشأة الدنيا أم الآخرة؟ فقال: الدنيا. فقلتُ له: كيف؟ فقال رضي الله عنه: لأن الدّنيا دار تمييز وأخلاط، والآخرة دار تمييز فقط، فتميز السعداء من الأشقياء، فكلُّ ما في الآخرة هو في الدنيا بلا شك، ولكن لما كانت دار حجاب، فمنّا من كُشف له عن ذلك فعَرفَهُ، ومنّا من لم يُكشف له فجهله.
فقلتُ له: فكيف صحّ للأكابر ذمُّ الدنيا مع هذا الكمال؟ فقال رضي الله عنه: لم يقع الذّمُ للدنيا من الأكابر وإنما وقع من بعض العباد والزّهاد الذين لم يسلكوا على يد الأشياخ. وإن وقع من أحدٍ من الأكابر ذمّها فإنما هو تبعٌ للشارع في قوله (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه) فما ذمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدّنيا لذاتِها وإنما لما فيها من الشرور والأنكاد والحجاب عن الله عزّ وجل وعلى هذا يُحمل قول بعض العارفين.
ويكمل الشعراني رواية عن شيخه قائلاً: وسمعته كثيرًا يقول: من ذمَّ عين الدّنيا فقد عقَّ أمَّه، فجميع الأنكاد والشرور التي ينسبها الناسُ إلى الدنيا ليس هو فعلُها وإنما هو فعلُ أولادها؛ لأن الشر فعلُ المكلّفِ، لا فعلُ الدّنيا.
 فهي مطيّةٌ للعبد عليها يبلغُ الخير وبها يبلغ الشرَّ، وهي لا تُحبُّ أن يشقى أولادها لكثرة حنوّها عليهم، وتخاف أن تأخذهم الضُّرة الأخرى على غير أهبة مع كونها ما ولدتهم ولا تعبت في تربيتهم، ومن عقوق أولادها أنهم ينسبون جميع أفعال الخير إلى الآخرة، ويقولون أعمال أولاد الآخرة وأعمال الآخرة! والحالُ أنهم ما عملوا تلك الأعمال الصالحة إلاّ في الدنيا. فللدنيا أجرُ المصيبة التي في أولادها ومن أولادها!
فما أنصفَ من ذمّها بل هو جاهلٌ بحقِّ أمّه، ومن كان كذلك، فهو بحق الحديثِ إذا قال العبدُ: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه عزّ وجل، والله تعالى أعلم.



الخميس، 18 ديسمبر 2014

رحلة مع مولانا جلال الدين الرومي



عنوان المقال: رحلة مع مولانا جلال الدين الرومي
بقلم: شيماء ملا يوسف - الكويت
المصدر: الحوار المتمدن 

"إن فقدت قلبك في طريق الحب، فرافقني ولا تتأخر، وأنا حصنك المنيع

مقتطفات من هنا، وقصة من هناك، هكذا تعرّفنا على جلال الدين الرومي. 
من منّا لم يحس بكلماته وهي تلامس القلب؟ من منّا لم يتوقف لحظة مشدوها بكلماته؟ من منّا لم يغيّر طريقه إلى طريق الرومي من مجرد قراءة بيت له؟!
الكلام حول جلال الدين الرومي، ليس حديث مثقفين ولا فلاسفة ولا شعراء. لندع العقل يستريح قليلا بحضور الرومي، لأنه ليس كلام منطق، ولا استدلال عقلي، ذلك أن الكلام حول الرومي هو كلام عن تجربته الروحية التي هي فوق الزمان والمكان، ولا مكان فيه إلا للقلب ومشاهدته - المعروف بعلم الإشارة - فلا يمكن للكلمات أن تصف تلك التجارب مباشرة، إلا باستخدام اللغة الرمزية بأدواتها والتي أجادها الرومي. فمثلا، كيف للعقل أن يُفسّرما قاله شمس الدين التبريزي: رأيتُ الله؟! 
الكلام عن الرومي؛ يعني أننا نتكلم عن أعماله، التي هي حول الله، والإنسان، والعالم، والعلاقة المتبادلة بين هذه الحقائق الثلاث، وأساسها حقيقة واحدة: ليس هناك إلا الله – تعالى - الذي ليس كمثله شيئ، لا صورة تحده ولا عقل يسعه، والعالم كله ليس إلا مظهرا لتجلياته. 
"كم هي الكلمات التي يحويها العالم؟ ولكن كلها تحوي معنى واحدا. عندما تكسر الجرة الماء هو الماء" /ديوان.
الرحلة معه ليس بها غير الله، وليس هناك خوف من عقابه ولا رجاء بجنته، فهو يلغي النظرة الدينية التقليدية في معظم الأديان القائمة على مبدأ "الخوف والرجاء"، ويرى أن ما هو قائم عليهما ليس إلا سمّا، وعلاجه لا يكون إلا بالمذهب القائم على الحب. طريق رحلته خال من شعور بالذنب والخطيئة والخوف من النار والهوان. فليس هناك خوف ولا نار إلا نار فراق الحبيب، كما جاء في أبيات افتتاحية المثنوي "قصيدة الناي".
وكأي صوفي آخر في الأديان الأخرى، يرى الرومي أن طريق الوصول إلى السماء - الله - لا يكون إلا عن طريق تبصرات في القلب والنفس الإنسانيين..
"أعبر خلف الصورة، تجاهل الأسماء نحو المعنى"/المثنوي
"خذ الدر واترك المحار" 
الرحلة التي يأخذ مريديه إليها ليست الوصول لمعرفة التكاليف الشرعية من إقامة الصلوات والصيام والحج وأداء بقية العبادات، بل هو يتوق للوصول بهم إلى أعلى مستويات الوعي الروحي، وتكون عندما تدرك الذات أنها ليست إلا إنعكاس لما هو إلهي، فتتخلى عن الصفات البشرية وتتحلى بالصفات الإلهية، وحينها يتجاوز الإنسان حقانية الذات فلا تكون وحدها على حق والبقية على خطأ، ويتجاوز أيضا حقانية الدين، فليس هناك أفضلية دين على آخر، فإن شاء الإنسان أن يسلك طريق النبي محمد من حيث العيش بمجتمع، أو طريق النبي عيسى في التغلب على الشهوات، أو طريق جلال الدين ومذهب الحب " سأل أحدهم: ما العشق؟ أجبت: عندما تصبح مثلنا تعرفه، والعشق محبة بلا حساب، وأنه صفة للحق على الحقيقة!" المثنوي، ليسلك المريد ما يشاء من الطرق التي هي بعدد أنفاس الخلائق، كما جاء في الحديث. وطريق رحلته الروحية مليئ بالصور التي تسهل على مريديه الوصول للعالم الباطني بعد أن يعبر العالم الظاهري، وليس هناك عائق يمنع الوصول والسير بطريقه. فرسائله عالمية؛ لا يحدها دين أو ثقافة أو لغة، ذلك أن حياته وتنقلاته ما بين بلخ ونيسابورودمشق وحلب وبغداد ومكة وقونية، أتاحت له الاطلاع على ثقافات متعددة، كالحثيون والإغريق والرومان والمسيحيون والبوذيون، فقرأ آثارهم الروحية من خلال قصصهم ومعتقداتهم، وكذلك استخدامه للصور والتعابيرمن الحياة اليومية للناس، بأفكارهم وأعمالهم ووجودهم، مما جعله أقرب للناس بدءا من الإنسان البسيط؛ حتى أن مُلهمه الروحي في وقت من الأوقات كان صائغ بسيط يُقال أنه لم يكن يُحسن قراءة سورة الفاتحة، إلى من هم في أعلى مستويات فكرية.
لكن ما يواجهه قُرّاء الرومي، أن كتاباته، وخاصة المثنوي، ذو الأجزاء الستة الضخمة لم تكن بطريقة منظمة وممنهجة، فهو لم يجلس ويكتب وينظم لها، وهذا أوجد ثغرة في فهمه. فنجد أحيانًا التناقض في البيت الواحد، على الرغم من أن بعض الباحثين المستشرقين حاولوا إيجاد خيوط تربط بين أجزائه الست وحكاياته المتداخلة والمتشابكة. لكني أميل إلى الآراء التي ترى أن المثنوي لم يكن مترابطًا، وهذا الرأي الذي كان عليه أغلب الباحثين. 
لا يهدف هذا المقال أو ما بعده من مقالات أنوي نشرها حول جلال الدين الرومي، إلى شرح أو تفسير أو محاولة إيجاد تعاليمه، ومن يقوم بذلك يبتعد عن طريقه كل البعد. ذلك أن الاجتهاد بقراءته والبحث عن المعنى والانتقال من ظاهر كلامه إلى باطنه، هو ما أراده جلال الدين من مريديه،
"لا يحتوي على تفسير لكل مقام ومَنزل، كي يحلق صاحب القلب، بجناح منه"/ المثنوي
ولا بد لمن أراد فهمه أن يقرأه بنفسه ولا يعتمد على تعليقات شُرّاحه. وكلّ ما تعرّف عليه أكثر، شعر بعمقه أكثر، لتعدد المستويات في شعره.
"التوصيف والتحديد لكل مقام ومَنزل، ومع كل صعود صوفي إلى الله"/ مثنوي 
هي مقالات غير منظمة، أسعى من خلالها التعريف بأعماله، وسأعتمد فيها على دراسات قام بها باحثون غربيون، نظرًا لافتقار المكتبة العربية لدراسات جادة حوله. ودور المستشرقون الغربيون بالغ الأثر في تعريف العالم الغربي بجلال الدين الرومي، وربما حتى في تعريفه لنا لما لدراساتهم من عمق، وأذكر منهم: المستشرقة الألمانية آن ماري شيميل (1922-2003) والتي اهتمت بدراسة أعمال الرومي على امتداد أربعين عاما من حياتها، ولها كتاب مميز الشمس المنتصرة. والمستشرق الانجليزي رينولد آلن نيكلسون (1868-1945) عالم الأدب الإسلامي والتصوف، ومن أبرز المترجمين للمثنوي إلى اللغة الانجليزية، والذي نشر ترجمة المثنوي في ثمانية مجلدات على مدى خمسة عشر عاما، وغالبية أبيات المثنوي أقوم بترجمتها من ترجمته المميزة. وكذلك الشاعر الأمريكي كولمان باركس المولود عام 1936 والمهتم بشعراء الصوفية الإيرانيين، والذي ينشر ترجماته حول أشعار الرومي منذ أربعين عاما. وبعد أن كان حكراً على الدول الإسلامية لمدة سبعة قرون باعتباره شخصية صوفية روحية وأدبية مرموقة، لقي الرومي عناية فائقة من المستشرقين قلّما احتلها مفكر أو أديب فارسي. فالمستشرقون، كالبريطاني آرثر اربيري (1905-1969) الذي اهتم بالتصوف والأدب الفارسي وترجم المثنوي بمستوى ترجمة نيكلسون، يصفه بأعظم شاعر صوفي في الإسلام، بينما يراه نيكلسون بأنه أعظم شاعر صوفي على الاطلاق. 
تم الاهتمام بأعمال الرومي بالغرب في القرن العشرين، وزاد الاهتمام به خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، فأشعاره تحظى باهتمام منقطع النظيرمن قِبل الشعوب الغربية. ولدى الغرب، كما لدى العرب، العديد من الترجمات، بعضها بأسلوب رصين وعميق، وبعضها بأسلوب سطحي وتافه، وأحيانًا؛ مبتعدًا عن المعنى الحقيقي، ولكنه عنى الكثير للناس بمختلف توجهاتهم، وليس للصوفية فقط. ما كتبه في المثنوي على سبيل المثال لا يُنظر إليه كنصًّا صوفيا، ذلك لأنه يحوي من الفكر والتراث أكثر مما تحويه النصوص الصوفية، فالنظرة الإنسانية التي يحفها الرومي بالإنسان عند ضعفه وخوفه وقوته وسموه وعشقه، نظرة غير مألوفة في الأدبيات الصوفية. وكما يرى المسلمون السنة أن الرومي سُنيا، يرى المسلمون الشيعة أنه شيعيا، فالزائر إلى ضريحه سيجد أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة وأسماء الأئمة الاثنى عشر منقوشة على سقف قبته. وكما يدعي العرب أن الرومي هو عربي بنسبه –غير مؤكد -إلى أبي بكر الصديق، يرى الأتراك أنه جزء منهم لأنه عاش حياته فيها، والإيرانيون يرون أنه منهم لأنه كتب بلغتهم، والأفغان ينسبونه إليهم لولادته فيها، وفي كتاب للدكتورعناية الله إبلاغ وهو أفغاني، لا يذكر جلال الدين إلا ب"البلخي". 
جلال الدين الرومي أيقونة؛ لكل العاشقين والمؤمنين و الغير مؤمنين، والآن بالإمكان سماع قصائده في الكنائس والمعابد وكذلك في الأغاني، وأيضا نراه في كل أنواع الفنون المختلفة كالرسم والرقص. فأعمال الرومي هي المحيط الذي لا ينضب، وقارؤوه يدركون أن فهمه يعتمد عليهم وحدهم وعلى قدراتهم الخاصة.
"النافذة هي التي تحدد الضوء الداخل إلى البيت، وإن كان ضياء القمر يملئ الشرق والغرب"/ ديوان
فكلما اتسعت نافذتنا في معرفتنا به، امتلأنا بضيائه أكثر. 


جلال الدين:


قبل الرحلة معه، علينا التعرف على جوانب حياة الشيخ الذي..
"صار الشيخ بسبب الفراق مجنون
صار الشيخ المفتي بسبب العشق شاعرا
غدا ثمِلا، رغم أنه كان زاهدا، 
ليس من الخمرة التي كانت في العنب.. لم يشرب سوى خمرة النور/ديوان"
ولد جلال الدين الرومي في الوقت الذي كان المغول يدمرون فيه الامبراطورية الخوارزمية، والتي كانت بلخ، المدينة التي ولد فيها، تابعة لها. بلخ في القرن الثالث عشر كانت من أهم المراكزالثقافية الاسلامية، وقد لعبت دورا مهما في تشكل التصوّف الشرقي لأنها قديما كانت مركزا للبوذية، وأيضا هي موطن لكثير من علماء الاسلام. 
ونظرًا للتقلبات السياسية في بلخ، وما كان عليه الصوفيون من طبيعة متجولة، تكره الراحة الجسدية والاستقرار، قرر بهاء الدين - والد جلال الدين - مغادرة بلخ متوجها الى الغرب. وبعد عشر سنوات في التيه، استقرت العائلة أخيرا في قونية - عاصمة السلاجقة - بدعوة من حاكمها السلجوقي علاء الدين كيقباد، وكان جلال الدين بعمر الرابعة والعشرين تقريبا. كانت قونية ملتقى الحضارات، فهي كالصدى لفلسفة الإغريق والرومان والفقهاء باختلاف توجهاتهم السنية والشيعية والصوفية وكذلك للملحدين، وأيضا كانت قونية كالكثير من الدول الإسلامية تعاني من اضطرابات فكرية وتقلبات سياسية من المغول ومن الحروب الصليبية.
لا يوجد شيئ معروف ومؤكد عن أسرة جلال الدين، وإن كانت بعض المصادر تشير الى رجوع نسبه الى أبي بكر الصديق، وأن أمه تنتمي لأسرة الخوارزمشاهية الحاكمة. 
تعليمه المبكر كان على يد والده بهاء الدين، الذي ينتمي روحيا الى مدرسة أحمد الغزالي، فانجذب جلال الدين إلى التصوّف وأصبح تلميذًا لعدد من مشايخ الصوفية. أما تعليمه لاحقًا كان على يد برهان الدين محقق الترمذي، صديق والده والذي جعله ينقطع في خلوات لفترات بلغت أربعين يومًا مارس خلالها التأمل ليبلغ الصفاء الروحي، وهو مَن نصحه بالسفر إلى سوريا ليجدّد تعليمه ويلتقي بشيوخ الصوفية. ويذكر شمس الدين التبريزي في كتابه "المقالات" أنه التقى بجلال الدين هناك، لكن الثاني لم يكن يعرفه.
بعد وفاة والده، والذي كان يُلقب بسلطان العلماء، تسلّم جلال الدين المهام الدينية التي كان يتولاها والده، إلا أنه لم يبلغ ما بلغه والده من العلوم الدينية. 


شمس الدين التبريزي


كانت نقطة التحول الكبرى في حياته حينما التقى بدرويش متشرد، ذاك اللقاء الذي به احترق شمس تبريز، وكان الرومي هو دخان ذلك. حكايات كثيرة حول اللقاء الذي جعل جلال الدين يُعرف بـ"مولانا" في كل أنحاء العالم. وإحدى الحكايات تقول: 
بينما يسير جلال الدين.. قابله درويش متشرد، فظ، معاد للمجتمع، ناقد له، هائم بلا مأوى، ينتقل من مدينة إلى أخرى، حتى قيل أنه يشاهد في مكانين بوقت واحد - صيغة تدل على كثرة تنقلاته بين المدن - وكان يُلقب بالطائر لأنه لا يستطيع أن يبقى في مكان واحد لفترة طويلة، رجل له قوة روحية لا يضاهيه فيها أحد. ذكر الباحثون ان التبريزي التقى بابن عربي وفخر الدين الرازي وحتى سعدي الشيرازي، كما التقى بشيوخ كبار. كان يبحث عن تلميذ يفوقه. اسمه شمس الحق والدين محمد بن علي بن ملك داد تبريزي. كتب شمس في كتابه "المقالات": أراد العارف الشهير أبا يزيد البسطامي أن يذهب إلى الحج، فقابله درويش مِن البصرة، فقال له: ماذا تريد؟ أجاب البسطامي: مكة لزيارة بيت الله. ردّ الدرويش: تعال طف حولي سبعة أشواط، فإن قلبي هو بيت الله، والكعبة بيت الله، لكن الله لم يدخل بيته بعد أن بناه، وأنه لم يخرج من قلبي حينما بناه.
تدل القصة على أهمية القلب في عالم الحقيقة عند شمس الدين وما له من محل للتجليات الإلهية. لم يكن شمس الدين يهتم بالفقه، فقد وجّه سؤال لجلال الدين: لماذا تأخذ نفسك بدراسة الفقه؟ فأجابه: لأعرف الشرع، قال شمس: أليس الأجدى أن تعرف صاحب الشرع!
حكاية اللقاء.. بينما كان جلال الدين راكبًا دابته وحوله مريديه، أوقفه شمس متسائلا: من هو أعظم شأنا؛ النبي محمد أم أبا يزيد البسطامي؟ رد عليه هازئًا: تعلم أن النبي محمد أعظم شأنًا. فأجابه شمس: لماذا يقول النبي "إلهي لم أعرفك كما يجب أن أعرفك"، بينما البسطامي يقول: أنا الحق؟ قال: إن كأس البسطامي صغير فامتلأ سريعا من معرفة الله، بينما كأس النبي محمد أكبر وظمأه أكبر فلم يمتلئ.
يذكر جلال الدين: بعد هذا اللقاء أحسست أن هوة فتحت في قمة رأسي، وانبعث منها دخان تصاعد الى عرش السماء.
وصف الرومي هذا اللقاء في مكان آخر: 
"لقد رأيتُ الملك ووجهه المضيئ
هو عين الجنة وشمسها 
هو الشافي لكل الخلق
هو الروح، بل العالم الذي يلد الروح.."
على امتداد ست شهور ظل الصوفيان متلازمان، الى الحد الذي جعل كثيرين يتذمرون، لأن الرومي هجر دروسه واصدقاؤه والناس جميعا، وغاب تمامًا في صحبة شمس الدين. وكشأن أي مؤسسة دينية المتسلسلة وفق تسلسل هرمي، هناك الشيخ جلال الدين في الأعلى ومن بعده يأتي المريدين، لكن هؤلاء المريدون لم يقبلوا أن يكون شمس المتعجرف شيخ شيخهم! كذلك، آراء شمس الدين ضد الفقه وللإسلام بصورته التقليدية، زادت من غضب المجتمع عليه، وخاصة بعد أن ألهى جلال الدين عن سيرته كفقيه، وجعله صوفيا غارقا في التصوف.
أحس شمس الدين بحنق القونيين عليه، فغادرها، وتحطم قلب جلال الدين من بعده، صار ينزوي ولا يتكلم إلا عن شمس. يقول فيه: إن شمس هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أدين له في إيماني ويقيني.
وفتَّش عنه في كل مكان، حتى جاء البشير من دمشق ليقول بأن شمس مضى إليها. أرسل جلال الدين ابنه ليأتيه به. وبعد شهور من الفراق التقى العاشقان بعِناق لا يُعرف به مَنْ العاشق ومَنْ المعشوق، فليس وحده جلال الدين من كان عاشقا لشمس، كذلك شمس كان عاشقا له.
بعد عودة شمس، قرر جلال الدين تزويجه من ابنة قام بتربيتها تُدعى "كيميا" لكي يكون شمس بقربه دائما. وظل العاشقان سويا لا يفترقان، إلى أن ماتت كيميا، فرجع الحنق ثانية على شمس، واختفى بعد ذلك، ولم يُرَ. 
تضاربت الأقوال حول اختفائه. أحدهم قال أنه غادر المدينة بعد تهديده بالقتل، وآخر قال إن لعلاء الدين ابن جلال الدين يد في مقتله - وقد ظل الرومي غاضبًا على ابنه، وحتى حينما تُوفي علاء الدين لم يحضر الرومي جنازته -. ورواية مقتل التبريزي أقرب للحقيقة، فمؤخرًا تمت أعمال الحفر في مقام شمس الدين ووُجِد قبر من العهد السلجوقي كما وصفه الأفلاكي في كتابه مناقب العارفين الذي يحوي أخبار جلال الدين الرومي، مما يؤكد رواية مقتله. 
جن جنون جلال الدين بعد اختفاء شمس، وسمع أحدهم يقول أن شمس الدين في سوريا.
"الشخص الذي قال: رأيتُ شمس الدين. سله: أين الطريق إلى السماء؟" /ديوان
"عندما ذهبتُ إلى تبريز، تحدثتُ مع شمس الدين
دون حروف بمئات الأحاديث، في الوحدة الإلهية"/ديوان
"أين الصبر؟ فلو كان الصبر جبل قاف، لتبدد كالثلج بشمس الفراق"/ ديوان
قصيدة تلو الاخرى نظّمها حول الهجر والشوق، لكن شمس لم يرجع. أظهرت أشعار جلال الدين التي نتجت عن هذه التجربة كل مراتب الوجد الصوفي والشوق والتوق دونما حدود..
"أنا ثمل
وأضعت الطريق 
أضعت الأرض، القمر، السماء..
لا تسكب لي كأساً آخر في يدي
اسقني في فمي
فأني أضعت الطريق إلى فمي"
مضى جلال الدين الى سوريا ولم يجده، ولكنه وجد شمس الدين في قلبه مشعًّا كالقمر. ومنذ ذاك الوقت استحال وجود الرومي إلى شعر وموسيقى. لم يهدأ لحظة لا في النهار ولا في الليل، ولم يكف عن ذلك حتى وفاته. وحتى عندما كان على فراش الموت، زاره صديقه برهان الدين التتري، فظلاّ يتكلمان عن شمس التبريزي. 
لقاء لم يدم أكثر من سبع وعشرين شهراً، انطبع أثره على حياة جلال الدين حتى آخر عمره. فقد كان لشمس الدين الدور الجوهري في تشكل حياة الرومي روحياًّ. فقد تغير طريق جلال الدين كليا من بعد اللقاء الملتهب ..
"في يدي دائما كان المصحف 
والآن أمسكتُ بالجغانة - آلة موسيقية - بسبب العشق
في فمي دائما كانت كلمات التسبيح 
والآن الشعر والرباعي والغناء"/ديوان
صحيح أن شمس تبريز هو الحقيقة الإلهية بجمالها التي تجلت في نفس جلال الدين، ولكن الرومي هو الفنان الذي أبدع عندما أُلهم. اللقاء فجأة بين ثري ينتمي لطبقة ارستقراطية وفقير قد يكون له مغزى، أنك لن تعلم من أين يأتيك شمس – الإلهام – من غني أم فقير، من حبيب أم غير حبيب، من متعلم أم جاهل. 


مولانا


وبعد ما يقرب من عشر سنوات من لقائه بشمس، بدأ مولانا في تأليف "غزليات"، وجُمعت لاحقًا في مجلد كبير وسُميت ب"ديوان الكبير"، حيث بلغ مجموع مقاطعها ما يقرب من ال 40000. وربما معظمها قيلت أثناء مجالس السماع "سما" والرقص الصوفي "رقصة الدراويش". 
في هذا الوقت جمعته صداقة روحية مع تلميذه هشام الدين جلبي. وفي أحد المرات سأله حسام الدين: ماذا لو تكتب مثنوي كما كتبه حكيم السنائي غزنوي وفريد الدين العطار – السنائي هو الذي وضع القالب لكل مثنويات الصوفية من بعده، وصارت عملا تعليميا للصوفية في قالب مؤلف من شطرين مقفيين بقافية واحدة، وتحوي قصصًا مختلفة وعديدة، وحكايات وأمثال دون نظام وترتيب، واستخدمها الصوفية في ايران كأداة للتعبيرعن تفكيرهم الصوفي. والعطار هو المعروف بكتابه منطق الطير وكان مولانا متأثرا بهما وتشير بعض المصادر إلى لقاء جمعه بالعطار- فيصبح رفيقا للشعراء والمتجولين ويملأ قلوبهم؟ ابتسم مولانا، وأخرج من عمامته قطعة من الورق كان قد كتب فيها ثمانية عشر بيتًا وهي قصيدة الناي التي افتتح بها المثنوي..
"استمع للناي كيف يقص حكايته
فهو يشكو ألم الفراق في صوت هو شكاية
ويقول إنه منذ قطعوه من الغابة والناس يبكون ببكائه
وصدره يمزقه الفراق"/المثنوي 
بكي حسام الدين فرحًا وألح على مولانا ليكتب، وافقه بشرط أن يكتب حسام الدين ما يمليه عليه مولانا. وبدأ الكتابة بالعمل الضخم "مثنوي معنوي"، وكان حسام الدين ملازمًا له، لم يترك بيتًا انساب على شفتي مولانا إلا وكتبه. يقول حسام الدين: "لم يجر القلم بيده بينما يؤلف المثنوي، فكان يملي علي في المدرسة، في الينابيع، في حمامات قونية، أثناء السماع، في البيت ليل نهار، وبالكاد استطيع مواكبة سرعته، أحيانا يؤلف لأيام، أحيانا لشهور، وفي إحدى المرات توقف لمدة سنتين لم يكتب شيئا. وعند الانتهاء منها، كنت أقرؤها له ليصححها". 
يعتبر المثنوي أعظم تحفة مكتوبة من قِبل إنسان. على أنه يفتقر إلى بناء ممنهج، لكنه ضم كل أنواع النشاطات البشرية من دينية وجنسية وسياسية وثقافية، وذكر بها شخصيات الإنسان بتنوعاته، منها الشخصية المبتذلة ومنها المحترمة. فضلًا عن تفاصيل تاريخية وجغرافية، وطرح العالم الدنيوي الى مستويات راقية من الوعي الكوني. آخذا موضوعاته من أحداث تاريخية وأساطير وسِيَر الأولياء وحكايات شعبية، وأقحم العشق والدعاء، وتأمل في أمثال وأحاديث نبوية. قصص تعود إلى قرون أو لآلاف السنين،فقد اشتمل على قصص لها أصولها القديمة، ولكنه حولها تحولاً كاملاً فتغيرت ملامحها وحفلت بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلفها الأصلي كحكاية فانوس ديجون، الفيلسوف اليوناني والذي كان يحمل معه الفانوس في النهار. يحتوي المثنوي على 25632 بيت شعر، ويقع في ست أجزاء، وظهر جزء سابع لكن بعد تحقيق الباحثون، تبين لهم أنه ليس من كتاباته. يحتوي المثنوي على العديد من الحكايات الرمزية، والتي كان يريد أن يكشف من خلالها الحياة الروحية. المثنوي، إذاً، عمل توجيهي ووعظي، كان يهدف مولانا من خلاله الوصول لأعلى المستويات الروحية، ولم يكن يريد أن يؤسس لمذهب فلسفي.
"كن عنيدًا في معاناتك الروحية، فالكنز مدفون تحت هذا"/ مثنوي
للإشارة، لعب المثنوي دورا رئيسيا في الحياة الفكرية لبلاد فارس على مدى سنوات طويلة، نظراً لأنه كُتِب بالفارسية.
ظل مولانا يملي على حسام الدين ما يكتبه في المثنوي حتى سنوات عمره الأخيرة التي عاشها صوفيا يشع نور العشق من جوانبه، حتى اشتد به المرض، وعجز الأطباء عن علاجه، ولازمه صديقه الطبيب أكمل الدين – شارح كتاب القانون لابن سينا - حتى توفى عن ثمانية وستين عاما. وقد ترك كتابات كالمثنوي، وفيه ما فيه، والمجالس السبعة، ومجموعة الرسائل التي كتبها الى بعض اصدقائه، وديوان شمس الذي كتبه باسم شمس تبريز، وأيضًا ترك مريديه الذين اتبعوا الطريقة المولوية والتي أسسها بصورتها النهائية ولده بهاء الدين الملقب بسلطان ولد، وهو الابن المؤثر لدى الرومي والذي أعطى الصورة الرسمية للطريقة المولوية. دُفن مولانا في قونية بجنازة مهيبة حضرها مختلف الجاليات، ومنها المسيحية واليهودية، حيث كانوا يرددون: كان موسانا.. كان عيسانا.والآن له قبر مشيد بقبة خضراء يُزار إلى اليوم..
"عندما تأتي لقبري 
سيظهر لك قبري المسقوف راقصا
لا تأت من دون دف الى قبري
لأن من استبد به الحزن لا يليق بمائدة الحق"/ ديوان


مصادر البحث:
• الشمس المنتصرة، آن ماري شيميل. مؤسسة الطباعة والنشر.
• المثنوي، ابراهيم السوقي شتا. المجلس الأعلى للثقافة.
• THE MATHNAWI OF MAWLANA JALALADDIN RUMI, Reynold A. Nicholson.
• جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام، الدكتورعناية الله إبلاغ الأفغاني. الدار المصرية اللبنانية.
• RUMI THE MASNAVI, Jawid Mojaddedi. Oxford World"s Classic.
• The Sufi Path of Love. William Chittick. 
• Divane Shams Tabrizi, R. Nicholson. 
• المنتخب من مناقب العارفين في أخبار جلال الدين الرومي، شمس الدين أحمد أفلاكي.
• فيه ما فيه أحاديث مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب.
• The Sufi Doctrine of Rumi, William C. Chittick

دين الحب - شمس تبريزي

قراءة في كتاب “الرومي- دين الحب” لليلي أنفار (3/3)
السبت 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014
المصدر: الأوان
بقلم: عائشة موماد




تعددت القصص والحكاوي حول لقاء مولانا جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي، لكن ما يهم، كان هو ذلك اللقاء، ولادة مولانا جلال الدين الرومي الحقيقية التي وثقت بعناية, كان ذلك في 9 نونبر 1244 فيما أطلقته عليه المؤلفة “مرج البحرين” استشهادا بالآية القرآنية. كان ذلك أهم لقاء في حياة مولانا حتى أننا نجد ابنه سلطان ولد يذكر شمس الدين التبريزي عندما وثق لسيرة والده قبل ذكر برهان الدين محقق أو جده بهاء الدين ولد.

يقول سلطان ولد في كتابه ولد نامه:“ بعد انتظار طويل، أخيرا، رأى وجهه وظهرت له الأسرار، واضحة كالنهار. رأى ما لا يُرى وسمع ما لم يسمعه أحد أبدا. لأنه في اشتياقه قد استنشق عطره، دون حجاب. وثملا بالعشق وغائبا عن نفسه، أضحى أمامه كل شيء ولا شيء”.

ويذكر شمس الدين التبريزي لقائه بمولانا في كتابه “مقالات” حيث يقول:
“أول كلامي مع مولانا كان سؤالي له: إذا كان بايزيد البسطامي صادقا عندما قال أنه كان يسير على نهج المصطفى، لماذا لم يتصرف مثله ولماذا قال”سبحاني“بدل أن يقول”سبحانك؟“
لأنه كان صافيا وذا روح مشرقة
فهم مولانا في الحال ما أردت قوله
أخذ قولي في كامل عمقه
رأى إلى أين يؤدي هذا الكلام
عذوبة الكلام
أصبح ثملا
ورغم أني لم أدرك ذلك بنفسي
فتلك الثمالة أثارت انتباهي لعذوبة كلامي.

لم يرد في مقالات شمس ولا في مؤلفات سلطان ولد أي جواب لهذا السؤال رغم أن الكثير من كتاب سيرة مولانا قد حاكوا قصصا حول هذا اللقاء واختلقوا إجابات كان الدافع من ورائها إبراز مكانة مولانا جلال الدين الرومي.
تقول ليلي أنفار:”البارع في سؤال شمس أنه لا يستوجب منك اتخاذ أي موقف، بل يطلب من الذي يتقن الاستماع:
ما معنى أن تكونا صادقا؟
ما معنى السير على نهج الرسول؟
ما معنى نشوة اللقاء؟
أين أنت من معرفتك بنفسك، أنت الذي تظن أنك تتبع بايزيد والرسول معا؟
أين أنت من السكر والرشد؟
هل فككت طلاسم هذا التناقض المحوري؟“

في الحقيقة، لا يمكن تخيل أية إجابة لسؤال بلاغي كهذا، كان الغرض منه الدخول في سكر تواصل خاص بهما فقط.
”شمس الذي يوجد في موضع وسط “بين مدرسة الشطح ومدرسة الزهد”، لا يعتبر السكر إلا لحظة للترقي الروحي، ويعتبر أن بايزيد قد توقف في السكر ولم يستطع أو لم يعرف كيف يتجاوز سكره“ل.أ

لكن رغم التشكيك في صدق تلك الحكايات، ومنها رواية فروزنفر ثم رواية الجامي ، فإنها تظهر ما غيره شمس في مولانا جلال الدين الرومي.
”بصحبة شمس، لم يقم فقط باكتشافات جديدة، لقد دخل إلى بعد آخر.......دخل بكل كينونته وسط العشق الإلهي ووُضع مباشرة في حضرة الله، وهذه التجربة التي لم ينقطع أبدا عن إنشادها أفنته وأعادت ولادته من جديد“.ل.أ

يقول مولانا في شأن ذلك:
كنت ميتا، فأصبحت حيا
كنت بكاء، فأصبحت ضحكا
ملك العشق قد أتى وملكي صار بدون حدود.
قلب شمس حياة مولانا جلال الدين الرومي رأسا على عقب.

خير دليل على أن شمسا كان شخصية حقيقية وليس مجرد أسطورة كما زعم البعض، هو اكتشاف مجموعة كتاباته”مقالات“خلال الأربعينات، والتي تم نشرها في السبعينات.”أصالة وحداثة فكره والاستعارات الي يستخدمها، مواقفه العنيدة حيث يختلط اللين بالعنف، قوة نثره الشعري، كل ذلك يسهم في جعله جذابا بشكل استثنائي. ولمرات عديدة، قراءة ذلك النص، يجعلنا نفهم سر الاضطراب الذي أحدثه في شخصية بمنزلة الرومي“ل.أ.

تعددت ألقاب شمس، فسمي”قطب الصوفية“و”سيد أولياء الله“و”إمبراطور مجانين العشق“لكن الإسم الذي بقي خالدا كان”شمس الدين“أو”شمس الحق“. ولعل الأفلاكي كان الوحيد الذي وافانا بالإسم الكامل: مولانا شمس الحق والدين محمد بن علي بن مالك داد. يقول الأفلاكي في مناقب العارفين:”في مدينة “تبريز”، كان الصوفية والمعلمون الروحيون يلقبون شيخنا شمس الدين ب“التبريزي” نسبة إلى المدينة، لكن الرحل ذوي القلوب المضيئة كانوا يلقبونه ب“الطائر”.

غادر شمس مسقط رأسه تبريز وعاش جوالا ينتقل من مكان إلى مكان، يكسب رزقه من أي عمل أو حرفة لكي لا يكون شبيها بهؤلاء الدراويش الذين يعيشون على الهبات والصدقات مقابل بضع كلمات من الحكمة. قابل مجموعة من الشيوخ والعلماء لكنه لم يفصح لأحدهم عن شخصيته الروحية، ولعل ذلك كان السبب في أنه لم يذكر من طرف أي أحد منهم .

يقول شمس في مقالاته:
ما وراء هؤلاء العلماء البارزين
الذائعي الصيت بين الناس والمحتفى بهم فوق منابر الوعظ وفي اللقاءات الروحية
هناك خادمون للحق
يعملون في خفاء.

كان شمس باحثا عن رفيقه الروحي. لم يجده في تبريز ولا في أي رحلة من رحلاته إلى بغداد أو دمشق أو حلب. كان يقول:
عندما تركت مدينتي
لم أعثر على أي معلم
لم أجد شيخي
إنه موجود
لكن أنا الذي تركت مدينتي من أجله
لم أجده
لكن العالم لا يخلو من المعلمين.
“لكن صوتا داخليا كان يخبره بأنه سيقابله يوما ما، هناك، في الغرب

وفي جزء آخر من”المقالات“كان يقول:

سألت الله أن يعرفني على أصدقائه لأجالسهم
قيل لي من خلال رؤيا:”سوف تكون صديقا حميما لأحدهم
“سألت،”أين يكون؟
“وفي الليلة الموالية أتاني الجواب،”إنه في الأناضول“
عندما رأيته بعد ذلك قيل لي:”لم يحن الوقت بعد“
”كل شيء بأوانه“

تثبت ليلي أنفار من خلال بحثها أن لقاء شمس بمولانا بقونية لم يكن مجرد صدفة ولم يكن أول لقاء. فمن المرجح أن شمسا قابل مولانا بدمشق حيث كان يدرس، لكنه هذا الأخير لم يكن بعد على استعداد لتلقي تعاليم شمس. لكن بعد اللقاء، تغير كل شيء. ترك مولانا حصص الوعظ وابتعد عن مريديه لكي يهب نفسه كليا لشمس مما أثار الأحقاد ضد هذا الأخير، فكان عليه أن يغادر قونية تاركا مولانا يقاسي تجربة الفراق المؤلمة.

كان هذا ما ذكره سلطان ولد في كتاباته، لكن مقالات شمس تذكر غير ذلك حيث يقول في أحد النصوص:
لست قادرا على أن أطلب منك السفر
لذلك سأتحمل هذا العبء من أجلك
فالفراق ينضج الروح
بعد الفراق نقول: لماذا لم أتبع أوامره ونواهيه؟
مقارنة مع ألم الفراق، كان ذلك سهلا
استطيع أن أسافر خمسين مرة من أجلك
عندما أرحل
فذلك من أجلك
وإلا ما الفرق عندي بين الأناضول أو الشام
مكة أو قسطنطينة
لا أبالي بذلك
لكن،
الفراق ينضج الروح ويكمله.

غرق مولانا في حزن شديد بعد غياب شمس وابتعد عن كل مظاهر الحياة على عكس ما تخيله المريدون، لكن شمسا”كان بمثابة الأستاذ الذي يعرف تماما ما ينقص روح تلميذه. كانت هناك مرحلة للانتظار وبعدها جاء اللقاء، ثم بعد ذلك مرحلة الفراق، وهي المرحلة الأساسية من أجل التدرج نحو العشق. حقيقة، فإن مولانا عرف تغيرات جذرية عند اكتشاف شمس. وعلى حسب الصورة التي يستعملها بطريقة مستمرة، فقد جرب “الاحتراق”، لكنه لم يكن في نظر شمس قد غاب واحترق كليا. ففي الفراغ الذي تركه غياب شمس، يمكن للرومي أن يدرك المكانة الحقيقية للمعشوق، والاحتراق الفعلي، الذي من دونه، لا يمكن للعشق أن يصل إلى مرحلة النضج ولا يستطيع الروح أن يدرك الكمال“ل.أ

وبعد الفراق والاشتياق جاء اللقاء، رجع شمس بصحبة سلطان ولد محققا طلب مولانا، ويمكننا تخيل السعادة التي أعقبت ألم الهجر، حيث يذكر سلطان ولد في كتاباته:
”جلس مولانا بالقرب من شمس، كانا مثل شمسين في سمت سماء واحدة. وبدأ شمس بالكلام: قد عاد أخيرا إلى الحياة. عبر كلامه، الكل كان يطير نحو العشق وينفصل عن ذاته......دام ذلك بعض الوقت: بصحبة ملوك العالمين، كان الناس أكوابا وكان الملكان كالشراب، كانوا كالليل وكانا هما صباحين مشرقين. كان الملكان كالربيع وكان الناس كسهل في مرحلة الخصوبة“.

لكن بعد برهة من الزمان، لم يعد مولانا يجالس أحدا سوى شمس، كما أنه زوجه ابنته بالتبني، فكان ذلك كفيلا بإثارة أحقاد المريدين حول شمس مدبرين له المكائد للتخلص منه واسترجاع شيخهم الواعظ. اختفى شمس إذن في أواخر سنة 1247 حسب ما جاء في بعض المراجع، لكن إذا فكرنا في العلاقة التي كانت تجمعه بمولانا حسب ما استخلصته ليلي أنفار، يصعب علينا تصديق بعض الروايات التي تقول بهروب شمس خوفا من أعدائه، لم يكن لشمس أن يتخلى عن مولانا من أجل سبب تافه كهذا. فقط، قد دون في مقالاته أنه ذاهب بدون رجعة. وغادر قونية تاركا مولانا في صراع مع الألم دونه في الديوان الكبير.

يمكننا أن نتوصل إلى أن شمسا غادر مولانا فقط لأنه لقنه كل ما يجب تلقينه، وأن الحضور الجسماني لم تعد له أية فائدة مقارنة بالعلاقة الروحية التي نسجت بينهما إلى الأبد. فالشعلة التي هيجها شمس ستظل مشتعلة إلى الأبد. لقد أشعل نارا لن تنطفئ وستلتهم العالم عبر شعر مولانا. وهناك بيت شعري حيث يتحدث شمس إلى مولانا فيقول:
”أنا الريح وأنت النار
أنا الذي أشعلتك“

كانت تلك العلاقة ما وراء الزمان والمكان والأجساد، وتحولت آلام الفراق وحرقة الاشتياق إلى التحام روحي قد يفسده تواجد الأجساد. يذكر سلطان ولد نصا مؤثرا حول وصول والده غلى هذه المرحلة:
”لم ير شمس الدين التبريزي في دمشق، بل رآه بداخله، وقد ظهر كأنه القمر. يقول: مهما تباعدت أجسادنا، دون جسد أو روح، لسنا سوى نور واحد. إن رأيته أو رأيتني أيها الباحث، فأنا هو وهو أنا.......لماذا نستمر في قول أنا وهو حيث أنا هو وهو أنا؟ أو كل شيء هو وأنا بداخله. ما آخذه وما أعطيه منه هو، إنه كالإنسان وأنا كالظل. بدون الإنسان كيف يتواجد الظل؟....إنه كالشمس وأنا كقطعة صغيرة، إنه كالمحيط وأنا كالقطرة.“

كان مولانا قمرا يعكس ضوء الشمس الخالدة، ف”في ليل العالم، لم يكن باستطاعة احد أن يتمنى الحصول على نور شمس لولا مرآة الرومي“وقد جاء ذلك في إحدى مقالات شمس:
”مولانا هو البدر الكامل
لا احد يستطيع الوصول إلى شمس روحي
لكن القمر سهل البلوغ
لن يستحمل الناظر شعاع الشمس ونورها
والقمر لا يستطيع الوصول إلى الشمس
يجب على الشمس أن يذهب إليه“
ويلاحظ في لأشعار مولانا أنه يأخد صورة القمر في كثير من الصور المجازية حيث يقول في إحدى رباعياته:
أنت الذي تذيبني، أنا، قمرك
لقد دعوتني هذا المساء
هل ستأتي بقربي؟
تقول لي:” كن متأكدا، أنا ملكك، سأجعلك حيان لأني أنا روحك“.

ستبقى علاقة مولانا بشمس لغزا لن يستطيع احد فكه، لقاء عنيفا لمحيطين فجر إنتاجا أدبيا منقطع النظير، يقول عنه مولانا في إحدى أغزاله:
أنت سمائي وأنا أرضك
إني مذهول: ماذا قررت لي أن ألد؟
ماذا تعرف الغرض عن البذرة التي زرعتها أنت؟
أنت من خصبها
أنت الوحيد الذي يعرف ما تحمل بداخلها.

كل تلك التعابير المجازية التي تتحدث عن شمس، سواء كان ماء أو شمسا....الخ، فهي تشرح للمتلقي أن مهمة شمس قد انتهت وكان لزاما عليه المغادرة .




تقول الباحثة أن الدراسات والبحوث الأخيرة لعلي موحد”Movahhed“تشير إلى أن شمسا قد توفي ودفن ب”خوي“”Khoy“، مدينة صغيرة بالقرب من تبريز، لكن لا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته”كان طائرا يتعذر الإمساك به، قادما من اللامكان متوجها نحو المجهول" ل.أ

ليلة عُرس العاشق الفرد



ليلة عُرس العاشق الفرد
انتقالُ مولانا جلال الدّين الرّوميّ
بقلم: خالد محمد عبده

لا تبحث عن قبرنا في التربة بعدما نموت
بل ابحث عنّا في قلوب العاشقين
أهلُ كلِّ دين محبون صادقون له، وأناسُ كلّ ملّة عاشقون له، كلّ من رآه تُيّم به، وكل من سمعه فُتن به، وما استطاع حزن كتم حزنه عند وقوع هزة الأرض العنيفة، فشق جيبه وأهال التراب فوق رأسه حزنًا على انتقال (نور الرسول) الكلّ أخذ في الصراخ والتأوه النصارى واليهود والمسلمون، عينُ حسدٍ أصابت الخلق فاحترقت الأرواح من صدمة ذلك البرق، وعندما اصفرّ وجه شمس الظّاهر، ومالت إلى الغروب، نزعت شمس العرفان تلك شعاعَ العناية من القالب الجسماني، وانتقلت من هذه الدُنيا الدنية إلى عالم الغيب.
روى سلطان ولد شعرًا وفاة مولانا جلال الدين الرّومي محددًا التاريخ بالخامس من جمادى الثانية من عام 672م الموافق للسابع عشر من كانون الأول من عام 1273م، وهو نفسه التاريخ المكتوب على مرقده الشريف.
يُقال إنه في الليلة الأخيرة التي اشتد فيها مرض مولانا اضطرب المحيطون به اضطرابًا عظيمًا وكان سلطان ولد ابن مولانا يأتي في كلّ لحظةٍ إلى عند رأس والده وعندما لا يتحمّل هذه الحالة كان يخرج من الحجرة. وقد نظم مولانا غزلاً في ذلك الوقت، وهو آخر ما نظمه:
امض وضع رأسك على الوسادة واتركني وحدي
اتركني متعبًا ساهرًا مُبْتلى
نحن وموجُ العشق وحيدين من الليل إلى النهار
فإن شئت فتعال من فضلك، وإن شئت فامضِ  
الليلة الماضيةُ في المنام رأيتُ شيخًا في محلة العشق
أشار بيده قائلاً: ارحل إلينا
ويروي الأفلاكي أن زوجة مولانا قالت له في ذلك الوقت: مدّ الله عمر مولانا إلى أربع مئة سنة لكي يملأ العالم بالحقائق والمعارف، فقال مولانا: هل أنا فرعون؟ هل أنا النمرود؟ نحن لم نجي إلى عالم التراب من أجل البقاء، نحن محبوسون في حبس الدنيا أرجو أن نصل قريبًا إلى مأدبة الحبيب، ولولا إصلاحُ الفقراء وإرشادهم لما اخترتُ لحظة واحدة الإقامة في مستقر التراب.
يوم وفاتي عندما يكون تابوتي منطلقًا
لا تظن أنني متألمٌ من أجل هذه الدنيا
لا تبكِ عليّ ولا تقُل وآ أسفاه وا أسفاه!
تقع في حبائل الشيطان حين يأتي منك هذا التأسف
وعندما ترى جنازتي لا تقل: فراقٌ .. فراق
فذلك الزمان هو زمانُ الوصال واللقاء عندي
وإذا ما أودعتني القبر، فلا تقل وداعًا وداعا
ذلك لأن القبر سرٌّ لاجتماع الجنان
إذا رأيت النزول فانظر إلى الصعود
فلماذا يكون الغروب إيذاءً للشمس والقمر؟!
وأيّة بذرة دُفنت في الأرض ولم تنمُ
فلماذا يكون لديك هذا التشكيك في بذرة الإنسان
يتراءى لك أنني دُفنت في التراب
إن تحت قدمي هذه السماوات السبع

لم يكن مولانا جلال الدين الرّومي منزعجًا من الموت أو مستغرقًا في الانشغال به، فما الموت إلا خطوة للانتقال إلى لقاء المحبوب.
يروي الجامي في نفحات الأنس أنه عندما انتشر خبرُ مرض مولانا في قونيه أخذ الناس يأتون لزيارته والاطمئنان على صحته، وجاء الشيخُ صدرُ الدنيا وقال له: شفاك الله شفاءً عاجلاً، ويكون لك رفع درجات، آملُ أن يصحَّ بدنُك، لأن حضرة مولانا روحُ العالم. فقال مولانا: بعد هذا شفاء الله لكم، فما بقي بين العاشق والمعشوق إلاّ قميصٌ من الشعر، ألا تريدون أن يتصل النورُ بالنور!
ويندهش سبهسالار المؤرخ لحياة مولانا من فرح الرّومي وترحيبه بالموت الذي تجسده أشعاره وكلماته، ويتعجّب من أن يكون مخلوقًا قبله أو بعده ضارع كلامه في هذا الشأن.
يقول مولانا في بعض أشعاره:
يا من تطيرُ من هذا القفص الضيق وتشدُ الرحال إلى ما فوق الفلك
انظر إلى الحياة الجديدة بعد هذا إلى متى تتحمل حمق هذه الدنيا
إن لباس هذا الجسم من شأن الغلمان فارتد قميص العظمة
الموتُ حياةٌ وهذه الحياة موتٌ لكن نظر الكافر يُظهر العكس
إن جملة الأرواح التي غادرت هذا الجسد حيّة ومتواريةٌ الآن مثل الملائكة
فإن تهدّم منزلُ الجسمِ فلا تتألم واعلم أيّها السيدُ أنها مجرد باب للسجن
وعندما تخرج من السجن ومن غيابة الجُبِّ تكونُ مثل يوسف المصري ملكًا ورئيسًا.
عند غروب شمس يوم الأحد السابع من كانون الأول/ديسمبر من عام 1273 حُمل نعشُ مولانا بإجلال تام واكتظت شوارع المدينة بحشود من الناس من كافة طبقات الحياة، رجالا ونساء وأطفالاً وعامة وخاصة، ونصارى ويهود وروم وعرب وترك وغيرهم، ويذكر محمود مثنوي خان الذي روى قصة حضور أهل الأديان للجنازة أن أحد المسلمين سأل النصارى واليهود : ما علاقتكم بمولانا؟ فقالوا: إذا كان لدى المسلمين في منزلة مُحمّد، فقد كان لنا بمنزلة موسى وعيسى، وإذا كان لكم إمامًا ومُقتدى  فإنه يُعدُّ عندنا قلبنا وفؤادنا.
ويعبّر عن ذلك سلطان ولد قائلاً:  جعله النصارى معبودًا لهم، ورآه اليهودُ رائعًا مثل هود، قال قومُ عيسى: إنه عيسانا، وقال قوم موسى: إنه موسانا، وقال المسلمون: إنه خلاصة الرسول ونوره. قالوا: إنه بحرٌ عظيمٌ وعميق.. واستمر الأمرُ هكذا لأربعين يومًا، لم تخبُ لحظة الأشواق والحُرق، ثم بعد أربعين يومًا مضوا إلى منازلهم، صاروا جميعًا منشغلين بهذه الحكاية، كان حديثهم كلهم ليلاً ونهارًا: إن ذلك الكنز غدا دفينًا تحت التراب، وذِكر أحواله وحياته، وذكر أقواله وكلامه الشبيه بالدُّر.
صار مقام مولانا قبلة للعاشقين والمحبين، ومما عُلق على هذا المقام الشريف بلسان أحد العاشقين:
هذا المقامُ بمثابة كعبة للعُشّاقِ
من أتاه ناقصًا رجع كاملاً مكتملا.

المصادر:
-فرانكلين د. لويس: الرومي ماضيًا وحاضرًا، حياة جلال الدين الرومي وتعاليمه وشعره. ترجمه إلى العربية وراجع أصوله الفارسية وقدّم له: أ.د. عيسى علي العاكوب، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب.
-بديع الزمان فروزانفر: من بلخ إلى قونيه، سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة: د.عيسى علي العاكوب، دار الفكر، سوريا.
-جيهان أوقويوجو: مولانا جلال الدين الرومي، دار النيل، مصر.

-أنّا ماري شيمل: الشمس المنتصرة، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي، ترجمه عن الإنكليزية وقدّم له وراجع مادته الفارسية الدكتور عيسى علي العاكوب، مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران.

عن الرومي بالعربية

نثر حرف ناطق بالعربية عن لسان بالفارسية... #الرومي_بالعربية