المنشورات

السبت، 8 نوفمبر 2014

أساطين التصوف الإسلامي في بلاد فارس 2


جلال الدين الرومي: أحد أساطين التصوف الإسلامي في بلاد فارس -2-

  بقلم:  محمد ناعم
المصدر: العدد 293 من مجلة دعوة الحق
ربيع 1-ربيع 2 1413/ شتنبر-أكتوبر 1992

    * مسلكه في التصوف:
    عرف التصوف الإسلامي في بلاد فارس نهضة حيوية كبيرة، استطاع أن يركز قواعده، ويرسي دعائمه، وأثر التصوف في المسلمين هناك أكثر من أي شيء، حيث نجد أن جل المتصوفة الإسلاميين في بلاد فارس قد خاضوا في مواضيع فلسفية وفكرية ولا تجد للسلوك والرياضة مجالا إلا عند القليل منهم، ومصطلح «العرفان» نفسه الذي يطلق على التصوف يعتبر دليلا على امتزاج الفلسفة بالتصوف، لاقتراب هذا المصطلح من «المعرفة»، وساعدت طبيعة التصوف التي تعتمد على الذوق القابلة للأخذ من كل الينابيع أن يميز تصوفهم عن باقي بلدان العالم الإسلامي، وأن تجعل منه ـ على حد قول الدكتور قاسم غني في كتاب (تاريخ التصوف الإسلامي) ـ «طريقة مركبة معقدة».
    ويرى الدكتور قاسم كذلك، أن الصوفية أنفسهم كانوا التقاطيين من حيث المذاق والسليقة. ولم يتقيدوا بقيد معين أي أنهم كانوا بمجرد أن يشاهدوا أمرا موافقا لعقائدهم وأذواقهم يأخذون به، برغم انتسابه إلى أي شخص أو مصدر، ولسان حالهم غصن الورد أينما ينبت هو ورد.( 1)
    ويعتبر جلال الدين الرومي من إفرازات هذه البيئة التي أثرت الفكر الصوفي بمؤلفات عديدة، ودواوين ضخمة، والتي  يظهر من خلال ثناياها مسلكه الصوفي الفلسفي، الذي يغلب عليه الدعوة إلى الاتجاه إلى الله، والفناء فيه.
    وأهم ما يميزه عن غيره من متصوفة عصره أنه كان بارعا في إيصال أفكاره وآراءه الصوفية الفلسفية، باستعمال كل الوسائل والأدوات، من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية شريفة، وحكايات الأولياء والعارفين والمشايخ وأشعار السابقين وحكمهم، وكانت لغتهم في ذلك الحب الذي يوصل الإنسان بالكون الكبير، وبالحياة الطليقـة من  قيود الزمان والمكان... وكانت كلماته عذبة رفافـة... مشرقة دافقة... متوجهـة دافئة، تدخل مغاليق القلــوب، وتبعث ذبيب الحياة في بليدي الإحساس والشعور، وكانت أفكاره لمسات حانية على الإنسان المعذب المفتون... في نفاقه وتظاهره وريائه، في عجزه وفقـره، في كبريائه وتساميــه، في حيرته بين الأرض وما يشده إليها والسماء وما يربطه بها، وذلك في لغـة جاهد بقدر الإمكان أن تخدم الهدف الذي من أجله كتب منظومة«المثنوي». 
    ولغة الحب والعاطف، التي استعملهــا جلال الدين ثروة لا تنفذ، لأنها ثروة القلب والشعور والوجدان، والتي تخلق في الإنسان السماحة والرضى، والحب العميق الشفاف، والاستبشار الوديع.
    ورغم طغيان عاطفة الحب على شعر جلال الدين فإننا نجد الفيلسوف والأديب الذي أثرى الأدب الصوفي بشكل خاص والأدب الفارسي بشكل عام، بإبداعــات لها خصائصها الفنية، ومقوماتها الأدبية، وظف فيها بطريقة بديعــة جميع معارفه، وموارد ثقافته المتعــددة، التي تدل على رسوخ قدمه في العلـوم الشرعية، والعلوم العقلية والأدبية، وما «المثنوي» إلا شاهــد بسيط على ذلك.
    يقول أحمد أمين في كتابه: (ظهر الإسلام).
    «المثنوي»: منظومـة صوفية فلسفية عظيمة، تحوي 25700 بيت، وهو قوي البيان، فيــاض الخيال، بارع التصويــر إلخ. حتى لينظم ـ جلال الدين ـ القصة القصيرة في مئات الأبيات وقلبه مفعم بالعشق الإلهي، مستغرق فيه.
    ويقص أحيانــا قصة، ويجعلها مدار كلامه وتصوفه، كقصة الوحوش، وهي قصص كليلة ودمنــة، ولكن جلال الدين الرومي أخذهـا وتصرف فيها، وتوسل بها في عرض أرائه.
    هذا، ورغم تأثـر جلال الدين الرومي بالمبادئ والأفكار الفلسفية حيث وظف الكثير منها في مؤلفاته، نجده في المقابل  الصوفي الرافض والمعادي للفلسفة بصفة عامة، وبكل تياراتها، ففي أكثر من مكان وجه إليها انتقادات بالغة الحدة تنسفها، وتدحض كثيرا من مبادئهــا، وتشكك في منطلقاتها ومقدماتها ونتائجها.
    ففي المجلد الأول من «مثنويه» أثناء استعراض قصة أنين عمود المسجد يقول:
    «مئات الألوف من أرباب التقليد والظاهـر رمى بهم الظنون نصف توهم، فإن تقليدهم واستدلالهم قائم على الظن، وكذلك خوافي أجنحتهم وقوادمها، ذلك الشيطان الرجيم يلقي الظنون، ويقع هؤلاء العميان مقلـوبين، إن قدم الاستدلاليين خشبيه، والقدم الخشبية واهنــة جدا»(2 ).
    فجلال الدين الرومي يقرر هنـا على أن الاستدلالات المنطقية والفلسفية، وكل محاولة في التدرج إلى الوصول للنتائج عن طريق مقدمـات وترتيبات وقياسات إنما هي تكأة واهية لا تستند على ركيـزة قوية، كمن يستند على الرجــل الخشبية، التي هي بطبيعتها واهنـة وغير مرنة، وأن استعمال مثل هذه الأدوات لا يوصل الإنسان إلا إلى الأوهام والظنون والشكوك.
    ويقول في موضع آخــر:
    «إن الفلسفي إنما جنـى عليه عقله وفكره، وهو ذلك المسافر الذي ظهره إلى غايته، فكلما أمعن السفر، وجد به السير، ازداد بعدا عن المنزل، وحرم الوصول»( 3).
    ويقول أيضا:
    «إن الفلسفي قد أحـاط بعلم الكائنات، وجمع ثروة هائلة من المعلومات، ولكنه لا يزال يجهل نفسه أنه يعرف خاصية كل «كل جوهــر» و«عرض»، ولكنه في معرفة نفسه وقيمتها أجهل وأظن من حمار أهله أنه يعرف  قيمة كل شيء، ولكنه لا يعرف قيمة نفسه، وغاية خلقه، وموقف من خالقه، ومن هـذا العالم، ومصيره بعد الممات»( 4).
    وموقف جلال الدين الرومي الرافــض للمبادئ الفلسفية، والاستدلالات المنطقية، وكان عليه من الأرجح رهين بالظروف والملابسات  التي كان يعيش في محيطها، وهذا ما يفسـره ويذهب إليه الكثير من مؤرخي التصوف الفلسفي الإسلامي.
    وفي هذا الصدد يقول الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا في كتابه: (التصوف عند الفرس)، (ص 11):
    «والجدير بالذكـر هنا، أن أغلب  مفكري إيران من المتصوفة كانوا ـ بالرغم منن هـذا  التأثـر الواضح بالفلسفة ـ يحملون على الفلاسفة ويكفرونهم، ولم يكن الأمــر عن عقيدة خالصة بقدر ما كان تلاؤما مع الجو العام، وخوفا من الفقهاء الذين كانــوا بالمرصــاد لكل من تسول له نفسه أن يخوض في أفكـار يراها الفقهاء من قبيل البدع».
    وخلاصــة لما سبق، فإن الظروف التاريخية المتعطشة للآراء الفلسفية، والمنظومات الصوفية، أتاحت لجلال الدين الرومي أن يكون أكبر الشعراء الصوفيين في بلاد فارس، بل أعظمهم على الإطلاق، لكونه لم يترك بابا أو مجالا أو موضوعا إلا وطرقه، وبذلك استطاع أن يخدم التصوف الفلسفي خدمـة كبيرة، حيث أعطاه شحنات قوية مكنته من النمو والاستمرارية.
    ويكفي أن يشهد لـها بهذا الفضل آخــر الصوفية العظام عبد الرحمان الجامي المتوفى سنة 898هـ، وقد لقب جلال الدين بشيخ الشعراء الصوفية، وقيل فيه: إنه (استو الأمــد) ( 5) لزخم مؤلفاته التي تناول فيها كل القضايا والمواضيع الصوفية والفلسفية والكلامية والأدبية، بلغة سهلة ميسرة، ورغــم ما يكتنفها في بعض الأحيان من رموز وإشارات عرفانية مبهمة، إلا أنهــا لقيت إقبالا واستحسانا، وأحيانا انبهارا من المسلمين وغير المسلمين، الذين عكفـوا على ترجمة مؤلفاته لسنين عدة.

    * مؤلفاتــه:
    تنقسم مؤلفات جلال الدين الرومي إلى قسمين: ما هو منظــوم وما هو نثور.

    1) المؤلفات المنظومــة:* ديوان شمس الدين التبريزي:وهو عبارة عن غزليات التي خلد فيها ذكــرى أستاذه، ويحتوي على ألف بيت، من بينها غزليات باسم صاحبيه صلاح الدين وحسام الدين.
    ويعتبر هذا الديوان من أجمــل وأعظم ما ألف في ميدان التصوف الإسلامـي، حيث إنه لم يترك وترا ولا بابــا إلا طرقه، ولا فكرة عامة أو ثانوية إلا فصلها.
    ومن خلال قراءة مؤلفات جلال الدين الرومي يتبين أن هـذا الديوان لم يؤلف لعامة المريدين، بل للخاصــة منهم، لما يشتمل عليه من رمـوز وإشارات خفية، وتبدو منظومته الصوفية المشببة بالروح الفلسفية نوعا ما معقـدة بالمقارنة مع المنظومات الأخرى، «ومن الممكن أن نجــد فيه شاهدا على أي فكرة طرقها الصوفية  في أسلوب شعري، حافل بالوجد، مـن الصعب على أي ترجمة مهما بلغت أن تحتفظ بروحه»(6 )
    طبع هذا الديوان أخيرا طبعتين جيدتين، إحداهمــا (غزليات شمس) بمقدمة جلال همائي (كليات شمس) من مطبوعات جامعة طهرا،، بتصحيح وحواشي ( بديع الزمان فروزانفر)( 7)

    * المثنوي المعروف باسم (مثنوي مولوي):
    يعتبر هـذا الديوان من أعظم وأنفس وأحسن ما نظم جلال الدين الرومي، حيث تظهــر من خلاله شخصيته التي تعبر عن فكره كمتصوفة، أخـذ به العشق والهيام والوجـد والحب كل مأخـذ، وكفيلسوف أصيل له طابعه الخاص، الذي أتاحته له ثقافته الواسعة العربية والفارسيـة، المختلفة الينابيع والروافد، حيث تظهر قدرته على مزج تلك الينابيــع  والروافد في بحـر زاخر من الأبيات الشعرية الرقيقة، التي تربو على 25700 بيت، والتي تبين قوة بيانــه، وصدق إحساسـه، وسمو ذوقه، وبراعـة تصويره، وفيوضة خياله، إلى جانب مــا نلمسه من معاناة الشاعر، وكذا وجده وشوقه.
    وإلى جانـب قيمة هذا الديوان الصوفية، فهو إحدى دخائـر التراث الأدبي الفارسي الإسلامي، بل التراث الأدبي العالمي، وفي ذلك يقول قاسم غني في كتابه (تاريخ التصوف الإسلامي) (ص: 165).
    «فمثنوي جلال الدين الرومي، لم يكن فقط أنفس آثــار إيران الأدبية، ولا هو أجمــع كتاب في التصوف الإسلامي، ولا هــو عن غير شك أكثر حيوية من منظومــات العارفين فقط، بل إنه ليعد أحد النجوم اللامعة في سماء الأدب العالمي أجمع.
    شرع جلال الدين في نظم المثنوي سنة 659هـ/ 1260م، باقتراح من تلميذه حسام الدين، وفرغ منه سنة 666هـ/1268م، ويقع في ستة أجزاء ، وقـد ألحق ببعض النسخ جزء سابع لم تصـح نسبته إليه.
    والمثنوي فوق ما تضمنه كثيـر من الإشارات إلى الأحاديث والآيـات مليء بالحكايات والتمثيليات، وأجــود نسخة المطبوعة في إيران (طبعة برخيم)( 8)
    وقد كتب عليه شروح كثيرة فارسية وتركية وعربيــة، وترجم المثنوي أو أجــزاء منه إلى اللغات الأوربية نذكــر منها:
    ترجم ثلث المجلد الأول إلى الألمانيـة سنة 1849م (روزان) في لبنرج، وأعـــاد (جورج روزان) ابن المترجم نشرها سنة 1913م.                 
    وترجم (سيرجيمس رودهاوس) المجلد  الأول من المثنوي شعرا، ونشرت هذه الترجمــة في لندن سنة 1881م.
    وترجم (ينفليد) مختارات من المثنوي بأجزائـه الستة إلى اللغات الانجليزية، يبلغ عددها ثلاث آلاف وخمسمائة بيت،  ونشرت في لندن سنة 1910م.
    ولم يترجم المثنوي إلى الإنجليزية كامــلا إلا على يد المستشرق الإنجليزي (نيكولسن) وقد حقـق النص وألحق بالترجمة مجلدين يشتملان على شروح وتعليقات، وبلغت المجلدات المشتملة على النص وترجمته وشروحه ثمانية مجلدات، نشرت في سلسلة جب التذكارية بين عامــي 1925م و 1927م، وقضى (نيكولسن) في هذا العمل خمسة وعشرون عاما كاملة.
    وقد نشر المستشرق الإنجليزي  (أربري) وهـو تلميذ لنيكولسن ترجمة لقصص المثنوي، ونشرت بلندن في مجلدين بين عامـي 1961م و1963م، وهي ضمــن مجموعة الكتب التي نشرتها هيئة اليونيسكو، للتعريف بالأعمـال الأدبية للأمم المختلفة بعنوان: 
    Unesco Collection of Respresentative Works
    وترجم المثنوي إلى اللغة العربية ترجمـة دقيقة، على يد المرحوم الدكتور محمد عبد السلام كفافي أستاذ جامعة بيروت العربية، وطبع في جزئين فاخريـن سنة 1969م، وكذلك ظهـرت ترجمة لبعض فصوله على يـد الدكتور عبد الوهاب عزام.
    عــلاوة على ذلك، ظهــرت عدة دراسات وأبحاث وترجمــات تتناول كلا من جلال الدين الرومي ومثنويه، وأغلبها إما باللغة الألمانية أو الإنجليزية أو الفارسية أو الهندية أو الأردية.

    * رباعيــات:
     يبلغ عددهــا 1959 رباعية، وقد طبعت في إسلاميون سنة 1312هـ 1894 ويشك في صحة نسة بعضها إليه.

    2) مؤلفاته المنظومــة:* كتاب «فيه ما فيـه».
    وهو عبـارة عن تقريراته التي ألقاهــا في مجالسه، ودونها ابنه سلطان ولد أو أحد مريديه، وأكثـر فصوله إجابات عن أسئلة وجهت إليه في مناسبات مختلفة، ولا يوجـد بينها ارتباط، ويخاطب في قسم منه معين الديـن سليمان بروانه، وقد طبـع في طهران سمة 1333هـ، وأعيـد طبعه سنة 1374هـ/1954م.

    * مكاتيـب:أي رسائل جـلال الدين إلى معاصريـه،                
    ويوجد منها نسختان في مكتبة دار الفنون بإسلامبول.

    * مجالس سبعــة:وهو عبـارة عن مجموعة من مواعظـه ومجالسه، وتوجـد منه نسخة خطية، «بمكتبة سليم آقا» في إسكدار، وتاريخ نسخهــا سنة 788هـ/ 1386م، وطبع منها ثلاثة أجـزاء بطهران( 9).
    وهناك عدة مؤلفات منشورة ومنظومــة لجلال الدين الرومي قد أتلفت وضاعت، ولم يزل منهـا سوى فقرات واستشهادات متفرقة بين كتب التصوف الإسلامي في بلاد فارس.
    الهوامش 
      1) تاريخ التصوف.
      2) تاريخ التصوف الإسلامي (ص: 145).  =
      3) رجال الفكر والدعوة(ص: 544). =
      4) المصدر السابق (ص: 549).
      5) التصوف وفريد الدين العطار: د. عبد الوهاب عزام (ص: 42).
      6) المصدر السابق.
      7) القصة في الأدب الفارسي، د. أحمد أمين، طبعة دار المعارف (ص: 412).
      8) القصة في الأدب الفارسي (ص: 412).
      9) القصة في الأدب الفارسي (ص: 412).

    ليست هناك تعليقات :

    إرسال تعليق

    عن الرومي بالعربية

    نثر حرف ناطق بالعربية عن لسان بالفارسية... #الرومي_بالعربية