المنشورات

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

من أنا - جلال الدين الرومي

مولانا جلال الدّين الرومي: من أنا ؟!
بقلم: خالد محمد عبده 
المصدر: موقع معابر، والبديل


أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي،
فلا أنا مسيحيٌّ، ولا أنا يهوديٌّ، ولا أنا مجوسيٌّ ولا أنا مسلمٌ،
ولا أنا شرقيٌّ ولا أنا غربيٌّ، ولا أنا بريٌّ ولا أنا بحريٌّ،
ولا أنا من عناصرِ الأرض والطبيعةِ، ولا أنا من الأفلاك والسماوات،
ولا أنا من التُّراب ولا أنا من الماء، ولا أنا من الهواءِ ولا أنا من النارِ،
ولا أنا من العرشِ، ولا أنا من الفرش، ولا أنا من الكون، ولا أنا من المكان!
ولا أنا من الهند، ولا أنا من الصين، ولا أنا من البلغار!
ولا أنا من أهل الدنيا، ولا أنا من أهل العقبی!
ولا أنا من أهل الجنة، ولا أنا من أهل النار!
ولا أنا من نسل آدم، ولا أنا من نسل حواء!
ولا أنا من أهل الفردوس، ولا أنا من أهل جنة الرضوان!
وإنما مكاني حيث لامكان، وبرهاني حيث لابرهان!
فلا هو الجسد ولا هو الروح، لأنني أنا في الحقيقة من روح الروح الحبيب.
يقول مولانا جلال الدين البلخي مولدًا الرومي مقامًا وحياةً هذه الكلمات، وقد اعتبر إدوارد بروان هذه الغزلية من أجمل الغزليات التي بدأ بها مولانا جلال الدين ديوانه شمس تبريز[1] وقام بترجمتها عن الإنجليزية العلاَّمة المصري إبراهيم أمين الشواربي، أستاذ اللغة الفارسية وآدبها في جامعة فؤاد الأول في عام 1954م ضمن ترجمته للجزء الثاني من كتاب تاريخ الأدب في إيران (من الفردوسي إلى سعدي)، وقد قارن الترجمة الإنجليزية بالأصل الفارسي للغزلية.
وعن الأصل الفارسي وحده قام الأستاذ علاء الدين السباعي مؤخرًا في كتابه مختارات من قصائد مولانا جلال الدين الرومي وغزلياته بترجمة الغزلية كاملة مما يساهم في جلاء معناها ووضوحها أكثر، فجاءت على نحو أبين وأظهر. يقول مولانا تتميمًا للغزلية أعلاه:
لقد تخلَّيتُ عن الثنوية، إذ رأيتُ العالمين عالمًا واحدًا
واحدًا فحسب هو من أبحثُ عنه
واحدًا فقط هو من عرفتُه
واحدًا فقط هو من أراه
واحدًا فقط هو من أناجيه
هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطنُ، لا أعرف أحدًا آخر سوى "يا هو" و"يا من هو".
أنا ثملٌ بكأس العشق... العالمان ضاعا من إدراكي ومعرفتي، ليس لي ما يقوِّمني سوى الاستغراق في النشوة الروحية.
لو أنني قضيتُ لحظة من عمري في يومٍ بدونك، لندمتُ على عمري منذ تلك اللحظة وتلك الساعة.
لو تيسَّر لي الجلوس معك للحظةٍ في هذه الخلوة لجعلتُ العالمين تحت قدمي ولرقصتُ طربًا.
وقد اعتبر هذه الغزلية الأستاذ عاطف جودة نصر، في كتابه الرمز الشعري عند الصوفية، رمزًا من رموز الحدس الصوفي المفضي إلى وحدة الأديان، وأراد أن يعضد رأيه فوجد في إحدى الغزليات لمولانا في ديوانه شمس تبريز، والتي ترجمها نيكلسون[2]، معينًا على ذلك. يقول جلال الدين الرومي:
نفسي! أيها النورُ المُشْرقُ لا تنأ عني... لا تنأ عني.
حُبِّي! أيها المشهدُ المتألِّقُ لا تنأ عني... لا تنأ عني.
أنظرُ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي... بل أنظر إلى زنار زرادشت حول خصري.
أحملُ الزنار وأحملُ المخلاة؛ لا... بل أحملُ النور فلا تنأ عني!
مسلمٌ أنا ولكني نصرانيٌ... وبرهميٌّ وزرادشتيٌّ.
ليس لي سوى مَعْبدٍ واحدٍ... مسجدًا أو كنيسة أو بيت أصنام.
ووجهك الكريم فيه غايةُ نعمتي! فلا تنأ عني... لا تنأ عني.
ترجم هذه القطعة عن الإنجليزية دون مقارنتها بالأصل الفارسي العلاَّمة المصري أبو العلا عفيفي[3]، وقد استدلَّ بهذه القطعة نيكلسون على أن الصوفية يعتبرون الحبَّ أساس الأديان، وبهذه النظرة تمكَّنوا من حل مشكلة الشَّر والقدر[4]، فكما يقول مولانا: إنه بقدر حبِّ المرء لربِّه يكون علمه بأسرار القدر، لأن الحبَّ اسطرلاب أسرار السماء، وهو الكُحلُ الذي تكتحل به عين القلب فينجلي بصرها.
وفي الجزء الثاني من مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي ترجم العلاَّمة المصري إبراهيم الدسوقي رحمه الله غزلية تحت عنوان اعزف أيها المطرب على القانون تنحو نحو الغزلية التي نعتني بها هنا، جاء فيها:
أيُّ إنسان أنا؟ وتراني من أكون؟ فأنا شديد الوسوسة، فأنا أُجذب من ذلك الصوب وأُجذبُ أيضًا من هذا الصوب.
ومن الشد والجذب كالقوسِ في كفِّ من يجذبني من أذني، وثمة فضيحةٍ تحدثُ ما دمتُ كبَابِ الدارِ.
فهل أنا نجمةٌ في الفلكِ؟ من برجٍ إلى برجِ أبكي في نُحوسها وأضحك في سُعودها؟
في لحظة أسرى كالريح، وفي أخرى عاطلٌ لا أصلحُ لعمل!
في لحظة نار وفي لحظة سيل... فمن أيِّ أصلٍ أنا؟ ومن أيِّ فضل أنا؟
في لحظة أكون فوق الطباق وفي لحظة في الشام أو العراق.
في لحظة أكون رفيقًا للقمر وفي لحظة أكون ثملاً بالإله.
في لحظة أكون يوسف في البئر وفي لحظة أكون أذى للجميع.
اعزف أيها المطربُ على القانون، هوس ليلى والمجنون، فلقد تخلَّصتُ من القيود، وخلعتُ وتد الوعي.
وبالله لا تفر منِّي ولا تُهرق قدح الحبِّ، وماذا يضير يا مليك الحِسان إن سمعت نصيحتي؟
وهيَّا أيها الأول والآخرُ قدِّم ذلك الشراب الفاخر، فقد صار هذا المجلس منوَّرًا بك يا عشقي المحمود.
وقدِّم هذه الخمرة الروحية من حانات المعاني، فإن عبدك لجدير حقًّا بأن يُعطى من هذه الخمر.
ولتجعل ناطقة الروح تطيرُ بعيدًا عن هذا المنطق الرسمي؛ فإن جواد نُطقي لا يجدُ الميدان.


إن ما نقلناه من غزليات تتردد كثيرًا على ألسنة محبِّي مولانا الرومي اليوم، ومنهم من يختزل الرومي فيها وحدها، ويراه فوق الأديان أو مؤمنًا بوحدتها جميعًا، ولا ينتبه إلى أنه يشير إلى الواحد وحده ويبحثُ عنه. ومنهم من يراه واقعًا في الحيرة، معبِّرًا عن ذلك بلسان الحال. کل مرة ألتقي فیها بالمولوي في عرصات دیوان شمس تبریز، تغشاني تلك الحیرة؛ ماذا یبغي الرومي؟ عم بیحث؟ ماذا یقول؟ بِمَ أحس؟ وأي طوفان تعکس هذه الجلبة التی لا یقرُّ لها قرارٌ؟
ومولانا جلال الدين الرومي نفسه من عبَّر في صراحة عن معتقده وكأنه يرى ما سيقع بعده من اختلاف:
إنني خادمُ القرآن، وذرة غبار في طريق المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإني لأشكو أمري إلى الله من هذه الإسنادات وأُبرئُ نفسي من قائلها.
بل إنه يقول في صراحة في كتاب فيه ما فيه:
اعلم الآن أن محمدًا هو الدليلُ، وإذا لم يأتِ الإنسانُ أولاً إلى مُحمد، فإنَّه لا يُمكنُ أن يصلَ إلينا، مثلما يحدث عندما تريد أن تذهب إلى مكان، في البدء يعمل العقلُ دليلاً، بعد ذلك تعمل العين دليلاً، ثم تتحرك الأعضاء على هذا الترتيب.
ويخصص مولانا الفصل الخامس والعشرين من كتابه فيه ما فيه لشرح الحديث الواصف للنبيِّ (لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك) ويصف النبيَّ قائلاً:
كل ما يمتلكه الأولون والآخرون إنما يمتلكونه بوصفه انعكاسًا له، وهم ظلُّه صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إنه يرى أن جميع الأنبياء والأولياء والعارفين الذين جاءوا قبله بمثابة الظلِّ له، ولو دخل الظلُّ إلى بيتٍ قبل صاحبه فالداخل هو صاحبُ هذا الظلِّ في الحقيقة، لذا فإن جميع الأنبياء وإن جاءوا قبل النبي وسبقوه، إلاَّ أن هذا السبق نسبيٌّ، فكما أن جميع الفضائل التي تقوم بها اليدان والرجلان تعود إلى العقل، فكذلك فضائل جميع الأنبياء تعود إلى النبيِّ لأنه هو السبب في وجودهم.
أردت في هذه المقالة أن ألفت النظر إلى هذه الوجهة التي لا يراها الكثيرون اليوم من عشَّاق مولانا، أو يرونه فوقها، كما أردت بالعودة إلى الترجمات العربية أن أؤكد على حضور مولانا جلال الدين الرومي في الثقافة العربية منذ فترة بعيدة، كردٍّ على ما يثار من أن العرب والمصريين لا يعرفون عن مولانا سوى النزر اليسير من المثنوي، فأتيت بقطعة واحدة تُرجمت عدَّة مرات من ديوان شمس تبريز، على أن جهود المصريين خاصة في الاحتفاء والاهتمام بما يقوله مولانا أكبر من أن تُنكر إلا ممن أغمض عينه عن رؤية الشمس، ولعلي في مقالي آخر أخصص بحثًا يحصر كل ما كُتب عن مولانا جلال الدين الرومي بالعربية في مصر، بدءًا من كتابات عزَّام والشواربي، وانتهاء بما كتبه تلامذة الدّسوقي شتا، نفعنا الله بعلوم مولانا في الدارين وتقبَّل اللهم من كل محبِّيه.
*** *** ***

 

horizontal rule
 [1] يروي الأفلاكي أن أمير شيراز أرسل إلى الشاعر الفارسي سعدي أن ينتقي أطيب غزلية في الشعر الفارسي، وأن يُراعي في اختيارها أن تكون غنية بأسمى الأفكار وأعلى المعاني، فاختار سعدي غزلية من ديوان "جلال الدين" وقدَّمها إليه، قائلاً: إن جمال الكلمات التي صيغت فيها هذه الغزلية جعلتها بحيث لم يستطع أحد في الماضي أن يقول مثلها، ولن يستطيع أحد في المستقبل أن يبلغ مبلغها، وليتني أستطيعُ أن أذهب إلى بلاد الروم لأمسح وجهي بتراب أقدام من قالها! ولعل ما يقوله سعدي يصدق جدًّا على هذه الغزلية المختارة ففيها يتخطَّى الرومي كل الحدود التي وضعتها الفرق ويخلق عالمًا أرحب من الأيديولوجيات.
[2]قضى المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون في دراسة مولانا جلال الدين الرومي ثلاثين عامًا، خمسة وعشرين عامًا منها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية لأجزائه الستة وألحقها بشروح وتعليقات، كما ترجم غزليات كثيرة من ديوان شمس تبريز، وقد رأى أن طول صحبته لمولانا لم تزده إلا تقديرًا لشخصيته الفريدة.
 [3]في مقاله المعنونُ بـ مات أستاذنا عدَّد الأستاذ عبد الرحمن بدوي لأبي العلا عفيفي أكثر من ثلاثين أثرًا بين مقالة وكتاب وتأليف وترجمة وتحقيق خلفها عفيفي كان أغلبها في التَّصوف ما بين درس لابن عربي، وأفكار صوفية، وجماعات كالملامتية، وقد وصفه بدوي بأنه "كان هادئ الطبع، دمث الأخلاق، كثير الأناة، وكان يُتقنُ كل ما يتوفَّر عليه من بحث، ويبذل فيه كل ما يملك من جهد وتفكير... وكان تلميذًا نجيبًا للأستاذ نيكلسون وقد ساعده في تدريس اللغة العربية في كمبردج. وقد ظل عفيفي رحمه الله طوال حياته العلمية الحافلة مؤمنًا بهذا الدور العظيم الذي كان للتصوف الإسلامي في تشكيل الحياة الروحية في الإسلام.
  [4]يقول مولانا في ديوان شمس تبريز: كل جنسٍ يمزِّقُ قيوده ليصل إلى مثيله؛ فلأي جنسٍ أنا أنتمي؟ وقد أصبحتُ أسيرًا في هذه الشبكة هنا؟ أنا في الماء، في الأرض، في النار، في الهواء، وهذه الأربعة تكون حولي، ومع ذلك فأنا لستُ من هؤلاء الأربعة. أحيانًا أكون تركيًّا وأحيانًا هنديًّا وأحيانًا روميًّا وأحيانًا زنجيًّا؛ ذلك الأمر يتوقَّف على ما تصوِّره أنت في الأرحام يا روحي، هذا ما أومن به أو لا أؤمن!

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

التردد بين المذاهب المختلفة وإيجاد مخرج وطريقة




درسٌ من دروس مولانا جلال الدين الرومي
المصدر: المثنوي، مج 2
الترجمة العربية للأستاذ كفافي .

التردد بين المذاهب المختلفة وإيجاد مخرج وطريقة
للخلاص من ذلك
فهكذا شأن الناس بالنسبة للمعرفة، فكل منهم يصف الموصوف الغيبيّ بإحدى الصفات.
فهذا متفلسف يدلي بشرح من نوع آخر، فيجرّحُ أحدُ الباحثين مقاله.
وثالث يطعن فيهما معا، ورابع يكاد يُسلم الروح نفاقا.
فكلٌّ منهم يدلى بعلامات لذلك الطريق، حتى يُظن أنهم ينتمون الى تلك القريةفلتعلم هذه الحقيقة:
إن هؤلاء جميعا ليسوا على حق! كما أن هذا القطيع ليس ضالاً من كل الوجوه
ذلك لأنه بدون الحق لا يتضح الباطل. فرائحةُ الذهب هي التي أغرت الأبله بزائف النقد [1].
فلو لم يكن النقد الصحيح منتشرا في الدنيا، فهل كان يمكن اصدار النقد الزائف؟
و لو لم يوجد الصدق فهل كان يوجد الكذب؟ فهذا الكذب يتلقى من الصدق نورا (يكشفه) .
ان الأعوج يُشترى على أمل في السوىّ. والسُّم يوضع في السكر، وحينذاك يؤكل.
فلو لم يوجد القمح المحبوب اللذيذ، فماذا كان يجني بائع الشعير الذى يدعى أنه قمح؟
فلا تقل إن جملة هذه الأقوال باطلة، فأهل الباطل هم الأحابيل التي تصيد القلب برائحة الحق!
ولا تقل ان كل هذا خيال وضلال، فليس في العالم خيال بدون حقيقة.
فحقيقةُ ليلة القدر قد احتجبت بين اليالي، حتى تلتمسها الروح في كل ليلة.
فليست كل الليالي هي ليلة القدر، أيها الفتى، كما أن كل الليالي لا تخلو من تلك الليلة.
و بين لابسي الدلق لا بد من فقير واحد، ففتش عنه، ومن وجدته صادقا فتقبله!
فأين المؤمن، صاحب الكياسة والتمييز، الذى يعرف كيف يميز بين الرجل و بين المخنثين!
ولو لم تكن في هذه الدنيا سلعٌ معيبة، لكان (ميسورا) لجميع البُله أن يصبحوا تجارا!
ولكان تقويم البضائع أمرا بالغ اليسر. فحينما لا يوجد العيب، فما الفرق بين القادر (على التقويم) و العاجز عنه؟
ولو كان كل شيء معيبا فلا جدوى من المعرفة، فما دام كل ما هنالك خشب فلن يوجد العود!
فمن يقل ان جملة الأحوال حق فهو أحمق! و من يقل ان جملتها باطل فهو شقىّ!
فالأنبياء بتجارتهم قد حققوا الأرباح وأما تجار الالوان و الروائح فهم عمى تعساء!
فالثعبان يظهر في أعينهم مالا! ألا فلتمسح جيدا كلتا عينيك!
ولا تنظر الى سرورك بهذا البيع والربح، بل انظر الى خسران فرعون وثمود!
حول امتحان كل شيء حتى يظهر ما فيه من خير وشر
إن السماء وهي ذات الرونق والجلال، قال بشأنها الحق: «ثُمَّ ارْجع اَلْبَصَرَ» .
ولا تقنع بنظرة واحدة من هذا السقف الميز، بل انظر مرات، «هَلْ تَرىٰ منْ فُطُورٍ» .
وما دام قد أمرك بأن تنظر مرات إلى هذا السقف المضيء نظر الرجل الباحث عن العيوب،  
فقد علمت كم يجب أن يُوجَّه إلى تلك الأرض المظلمة من التأمل والتمييز، لتكون جديرة بالإعجاب!
وكم يجب على عقولنا أن تتحمل من عناء لكي نستخلص أهل الصفاء من بين الكدر! إن تجربه الشتاء والخريف، وحرارة الصيف، والربيع الشبيه بالروح، و الرياح و السحب و البروق، كلها جاءت لتظهر عوارض الفروق، لتخرج الأرض، الترابية اللون كلَّ ما حملته في جيبها من ياقوت و أحجار.
فكلُّ ما سرقته هذه الأرض المظلمة من خزانة الحق، ومن بحر الكرم، (يسألها عنه) شرط التقدير قائلين: «قولي الصدق و اذكري ما أخذته ذرة ذرة   !» فيقول اللص، يعنى الأرض: «لا شيء قط» ، فيأخذ الحاكم في تعذيبها.
فحينا يخاطبها الحاكم بقول لطيف كالسكر وتارة يعلقها في الهواء و يسومها كل ما هو أسوأ من ذلك، حتى تظهر بين القمر واللطف تلك الخفايا، بفعل نار الخوف و الرجاء! فهذا الربيع هو لطف الحاكم ذي الكبرياء، وأما الخريف فهو تخويف الله و تهديده.
وأما الشتاء فهو صليب معنوي، حتى تكشف عن نفسك أيها اللص الخفيّ!
وكذلك يكون للمجاهد زمان لانبساط القلب، وزمان للقبض و الألم و الغش و الضغينة
ذلك لأن أبداننا المفطورة من الماء و الطين، منكرة سارقة نور أرواحنا! والحق تعالى يلقى على أجسادنا الحر و البرد و الألم و العناء أيها الرجل الشجاع.
فالخوف والجوع و النقص في الأموال و البدن كلها من أجل اظهار جوهر الروح!
لقد أطلق هذا الوعد وذاك الوعيد، من أجل الخير والشر اللذين قد امتزجا بإذنه
فما دام الحق والباطل قد امتزجا، والنقد الصحيح قد امتزج بالنقد الزائف في جعبة واحدة، فلا بد لهما من محك أحسن اختياره، ومشهود في امتحان الحقائق، حتى يكون فيصلا ازاء كل مظاهر الزيف، ويكون دستورا لتلك التدبيرات.
فيا أم موسى، أرضعيه ثم ألقيه في اليم ولا تخافي عليه من البلاء!
فكل من شرب من هذا الحليب في يوم: «ألست» ، يستطيع تمييز الحليب، كموسى (في طفولته)
فإن كنت حريصًا على إعطاء طفلك التمييز فاغذه الآن بالحليب، كما فعلت أم موسى [2]، حتى يعرف حليب أمه منذ البداية، و لا ينخفض رأسه سعيا الى مربية خسيسة.




[1] حرفيا: «فالأبله قد اشترى زائف النقد على رائحة الذهب» ، اى أنه اشتراه على أمل أن يكون نقدا من الذهب الخالص.
[2] رفض موسى حليب المرضعات، و عرف حليب أمه، كما ورد في قصته بعد أن التقطه آل فرعون.  ( فأرضعيه الآن يا أم موسى» . و في ذلك اشارة الى قوله تعالى: «و أوحينا الى أم موسى أن أرضعيه» . الآية: سورة القصص،٢٨:٧.

الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

السماع عند الفرس والعرب - إسعاد عبد الهادي قنديل



صورة

 السماع عند الفرس والعرب - إسعاد عبد الهادي قنديل
الناشر: نشر خاص بالمؤلف - القاهرة
الطبعة: 2004
392 صفحة
archive||gulfup||mediafire

نبذة المؤلفة:

السماع بمعناه العام يعني الموسيقى والغناء والرقص، وبمعناه الخاص عند أصحاب الوجد والحال من الصوفية يعني الاستماع بأذن القلب إلى الأصوات والألحان في حال من الوجد والغيبة عن النفس، والتصفيق والرقص على انفراد أو في جماعة بآداب ورسوم خاصة.
والسماع من الظواهر التي تلفت النظر في التصوف الإسلامي بعامة، والتصوف الفارسي بخاصة، فهو يمثل جانبا مهما من تصوف عدد من شعراء الفارسية أمثال أبي سعيد بن أبي الخير (م 440هـ)، وجلال الدين الرومي (م 672هـ) وعبد الرحمن الجامي (م 898هـ)، وغيرهم.
وقد عرف السماع بمعناه العام عند الفرس والعرب قبل الإسلام. وفي صدر الإسلام برز هذا اللفظ، وإن تغير مفهومه، فأصبح يعني سماع القرآن الكريم والحداء وأغاني الحجيج والأشعار التي تحث على الجهاد والغزو. غير أن هذا المفهوم لم يلبث أن تطور بعد أن راج الغناء وانتشر بين المسلمين في العصرين الأموي والعباسي، وأصبح السماع يعني الغناء.
وقد دخل السماع بهذا المفهوم الحديد التصوف الإسلامي في وقت مبكر من تاريخه وكثرت فيه أقال شيوخ الصوفية الأوائل وأباحه معظمهم ومارسوه، ولم تمتنع عنه إلا قلة من المتحفظين الذين تابعوا رأي بعض الفقهاء ممن ترددوا في إباحة الغناء، لما يصحبه من عزف على الآلات، والقيام ببعض الحركات التي كانوا ينظرون إليها على أنها اللهو الذي يتجافى عن نصوص الشرع والدين.

محتويات الكتاب:

يتألف الكتاب من مقدمة بعنوان "الفنون في حياة الشعوب (الشعر، الموسيقى، الغناء، الرقص)"، ومن ثلاثة كتب:
- الكتاب الأول: السماع عند الفرس والعرب قبل الإسلام وحتى العصر العباسي: يضم ثلاثة فصول:
الفصل1- الموسيقى والغناء عند الفرس.
الفصل2- انتقال الموسيقى الفارسية إلى العرب قبل الإسلام.
الفصل3- الغناء والموسيقى عند العرب قبل الإسلام.
- الكتاب الثاني: السماع في التصوف الإسلامي من خلال الكتب الصوفية المنثورة: يضم تمهيدا وأربعة فصول:
الفصل1- السماع في المرحلة الأولى.
الفصل2- السماع في المرحلة الثانية.
الفصل3- السماع في المرحلة الثالثة
الفصل4- مفهوم السماع في التصوف.
- الكتاب الثالث: السماع في الشعر الفارسي الصوفي: يضم تمهيدا وثلاثة فصول:
الفصل1- فن الرباعي.
الفصل2- الغزل.
الفصل3- السماع عند أبي سعيد بن أبي الخير.


جزيل الشكر والتحية والتقدير لمنتدى سور الأزبكية الذي وفّر لنا القائمون عليه هذا الكتاب النادر !

رمزية الرقص والسماع في الطريقة المولوية

 رمزية الرقص و السماع في الطريقة المولوية
دكتور أحمد موسى – المغرب
التخصص: اللغة الفارسية وآدابها
أصلُ هذه الورقة مداخلة شارك الأستاذ بها في المؤتمر الدولي الثالث للتصوف 
الذي انعقد في كلية الآداب بالجديدة-المغرب - عام 2008.
المصدر: موقع الأستاذ الشخصي.


اهتم الأدباء الفرس بالتصوف اهتماماً بالغاً و خلّفوا آثاراً خالدة في هذا الموضوع و كان من الطبيعي أن تحظى هذه الآثار بإعجاب القرّاء في مشارق الأرض و مغاربها، فكثُرت ترجماتها و شروحها إلى اللّغات الشرقية كالعربية و التركية و الأردية قبل أن يتلقّفها الغربيون فيما تلقّفوه من آثار صوفية عربية و يولوها العناية التي نعرف. و قد صاغ الشعراء الفرس تجاربهم الصوفية و الروحية شعراً، كما نظموا الملاحم و القصائد الطوال شعراً أيضا، مظهرين قدرة فائقة على نظم الحكايات الغرامية و القصص الرمزية ذات البعد الصوفي و العرفاني. فقد كتب فريد الدين العطار[2] (627 ﻫ) منطق الطير و أسرار نامه و مصيبت نامه و قد اعتمد في أعماله هذه و في غيرها من آثاره الشعرية الأخرى النفس الملحمي و القصصي مع كل ما يتطلبه هذا الفن من سرد و حوار و استطرادات و وصف. و ألّف سنائي[3] (545 ﻫ)، بالإضافة إلى ديوانه الذي ضمّ ثلاثين ألف بيت، منظومة طويلة هي «حديقة الحقيقة» تتصل بالأخلاق و يبلغ عدد أبياتها أحد عشر ألف بيت. إلى جانب ستة مثنويات و كلها مطوّلات. أمّا نظامي اﻟﮕﻨﺟﻮي[4] (599 ﻫ)، و هو من أكثر الشعراء تأثيراً في تطور الأدب الفارسي فله خمس منظومات قصصيّة ذات نفس ملحمي سمّاها الكنوز و هي: "مخزن الأسرار" و "خسرو و شيرين" و "ليلى و المجنون" و "اسكندر نامه" و "هفت ﭘيكر". و لعبد الرحمن الجامي[5] ( 898ﻫ) مثنويات قصصيّة جُمعت تحت عنوان «نجوم الدب الأكبر السبعة» بالإضافة إلى ثلاثة دواوين من الشعر الغنائي.
 و لهذا الاهتمام الفائق بالتصوف الإسلامي عموماً ما يبرره، فالكتابات الصوفية لا تخضع لزمان أو مكان بعينهما، بل تتمرّد عليهما و تتجاوزهما لتظل محافظة على توهّجها و نضارتها البكر فلا تبلى و لا يصيبها الضمور. و لأنها تصدر عن تجربة روحيّة حقيقيّة، فإن أثرها في النفوس لا ينقص بمرور الزمن، بل يزداد بازدياد حاجة البشر إلى الزخم الروّحي. فلا غرابة إذن أن يقضي المستشرق البريطاني نيكلسون ثلاثين عاماً من عمره في دراسة و تحليل و ترجمة مثنوي جلال الدين الروّمي، و أن يوقف المستشرق الفرنسي ماسينيون حياته كلها تقريباً على دراسة الحلاج و يؤلّف عنه موسوعته الشهيرة «عذاب الحلاج»، و أن يحظى محيي الدين بن عربي بكل هذا الاهتمام من لدن الباحثين و الدارسين. و يمكن القول، بدون مبالغة، إنّ النّص الصوفي يحمل حداثته في ذاته و من هنا تخطيّه لحدود الزمان و المكان الذي أشرنا إليه.


المولوي و تأسيس الطريقة المولوية :
يعتبر جلال الدين الرومي أكثر هؤلاء الأعلام حظوة لدى الشرقيين و الغربيين على حدّ سواء، و هو من العرفاء الربّانيين الكبار و أعظم شعراء الفارسية ممّن كتبوا عن العرفان. فهو، باتفاق الجميع، أكبر شاعر صوفي عرفته البشرية حتى اليوم، اختار التصوف سبيلاً في حياته العلمية، و فلسفة لفكره و فنه الرفيع. فما من شاعر غنّى المحبة و الجمال كما غنّاهما هو، و ما من شاعر غاص في أعماق النفس البشريّة كما فعل هو، و ما من شاعر ألهب قلوب العشاق كما ألهبها هو.
سنحاول في هذه الإطلالة القصيرة على عالم مولانا جلال الدين أن نقدّم ـ من زاوية مغايرة ـ جوانب من تجربته الروّحيّة و مساره الصوفي خاصة ما يرتبط بمسألة الرقص و السماع و الموسيقى الروحية في الطريقة التي أسسها، و ذلك لتقريبها من القارئ الذي لم تتح له فرصة الاطلاع على هذه الطريقة و آثارها أو على سيرة صاحبها. و هذا أقصى ما يمكن أن نقدّمه في حيّز كهذا، لأنّنا مهما فعلنا فلن نفي حق من قال فيه عبد الرحمان الجامي، و هو الآخر من كبار شعراء الفرس: «لم يكن نبيّاً و لكنه أوتي الكتاب»[6]، و الكتاب المقصود هو المثنوي بالطبع.
ولد جلال الدين الرومي في عصر كان يمور بالاضطرابات والصراعات الداخلية والخارجية ، وكانت ولادته سنة 604 ﻫ في مدينة بلخ، التي نسب إليها كبار العلماء والفلاسفة والفقهاء، كالفردوسي وابن سينا، والغزالي، وقد غادرها أبوه بهاء الدين وَلَد، الملقب بـ "سلطان العلماء"، وهو صوفي وعالم دين سنة 640 ﻫ هرباً من الغزو المغولي القادم من الشرق، والذي دمّر المدينة بعد عام وأتى عليها. وفي نيشابور التقى جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي المشهور فريد الدين العطار، الذي أهداه كتابه "أسرار نامه".‏
لقد ظل الرومي طوال عمره معجباً بالعلماء السابقين عليه و بالخصوص بهذين الشاعرين الصوفيين الرائدين، وكان يردّد القول "لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق". و جاء في المثنوي :
عطار  روح  بوده  و  سنائي   دو ﭼشم  او            ما   از   ﭘﯽ   سنائى   و   عطار   آمديم و من آن ملاى روميم كه از نظمم شكر ريزد         و ليكن در سخن ﮔفتن غلام شيخ عطارم[7]
أي : كان العطار روحاً، و سنائي عينين له.
       أما نحن فقد وصلنا بعد سنائي و العطار.
      و أنا شيخ الروم الذي يقطر السكر من شعره.
      إلا أني في مجال البيان مريد لشيخي العطار.
‏ عندما التقى جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي[8]، الدرويش الجوال، الذي وصل قونية سنة 665 ﻫ وأقام في أحد خاناتها منقطعاً إلى نفسه، تعرّض ذات يوم شمس الدين لموكب الرومي وتلامذته، وجرت بينهما محاورة قصيرة، أغمي فيها على "مولانا" جلال الدين، وعندما استعاد وعيه أخذ شمساً إلى المدرسة، و في هذا الصدد تروي كل المصادر التي تضمنت سيرة هذا الشاعر الصوفي الكبير أن مولانا أخذ الدرويش الجوّال إلى داره و بقيا منفردين في خلوة لمدة أربعين يوما، يتناجيان و يتبادلان الأسرار. لم يدر أحد ما دار بينهما بالضبط لكن المؤرّخين و تلاميذ جلال الدين الروّمي يتّفقون على أن هذا الأخير قد حقق الكمال الصوفي على يدي شمس التبريزي بعد أن لقّنه، أثناء خلوتهما، من المعارف و الأسرار ما جعله أهلا لذلك. صار بعدها "شمس" الأستاذ الروحي للرومي، والذي ظل يحتفظ لأستاذه طوال حياته بحب و عرفان للجميل لا حدود لهما. أدَّت هذه الحادثة إلى جعل المولوي صوفياً محترقاً بالمحبة الإلهية، كما عبّر عن حاله بالقول :
مرده بدم زنده شدم ﮔريه بدم خنده شدم      دولت عشق آمد و من دولت ﭘاينده شدم[9]
 أي : "كنت نيئاً، ثم أنضجتُ، والآن أنا محترق".‏


لقد وجد مولانا في شمس التبريزي الإنسان الكامل الذي بلغ أسمى المقامات الصوفية فيما وجد شمس في مولانا الإنسان الوحيد القادر على استيعاب و إدراك ما وصل إليه من كشوفات و مراق كان ينوء بأسرارها وحده إلى أن قادته إلى قونية.
وبعد اختفاء شمس الدين التبريزي أنشأ جلال الدين الرومي الحفل الموسيقي الروحي، المعروف بالسماع، ثم نظم في ذكرى شيخه وأستاذه الروحي مجموعة من الأناشيد حملت اسمه "ديوان شمس تبريزي"[10]، وهي مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب و الأسى، و إن كانت في جوهرها تنشد الحب الإلهي المقدس. وقد استمر حال الرومي على ذلك إلى أن وافته المنية سنة 672 ه‍.
و يعتبر مثنوي[11] جلال الدين الرومي، على ضخامته ـ ستة مجلدات ـ من أكثر الكتب رواجاً و شهرة حتى سمّي بـ«القرآن الفارسي» لكثرة تداوله و شرحه و حفظ الناس لأجزاء منه. و يعود سبب هذا الانتشار الواسع، في جزء كبير منه، إلى فرقة "المولوية" التي أسّسها جلال الدين الرومي في تركيا ونظّمها بعد وفاته ابنه الأكبر سلطان وَلَد. ومن سماتها وخصائصها التي عُرفت بها "الرقص المعروف، أو السماع" الذي أعطى الأعضاء اسم الدراويش الدوّارين. فقد أدخل جلال الدين السماع كوسيلة لاستدعاء الحضور الإلهي في حلقات الرقص الصوفي، أو بكلمة أدق، إحساس الإنسان بعودته الشعورية إلى أصله. فكانت مدينة قونية في تركية المقّر الأول للطريقة، ومنها انبثقت التكايا (الزوايا) التي هي بمثابة فروع للمركز وصار السلاطين والأمراء هم الذين يبنون التكايا منذ القرن العاشر الهجري، وفي عهد السلطان سليم الثالث شهدت الطريقة أوج مجدها،وانتشارها.
لم تكن الطريقة في بداية حياة الرومي مركزية تماماً، فهنالك المقر في قونية وله فروع من التكايا في المناطق الأخرى. وكانت بطانة الرومي تتألف من الفنانين والحرفيين والصناع المهرة الذين كانوا يقومون بكل الأعمال.
لم تكن الطريقة المولوية تميز بين الأديان والطوائف، بل ترفض التعصب وتنبذه، وكان أعضاؤها ينطلقون في جماعات إلى القرى، لمساعدة الفقراء، وإقامة حفلات السماع التي تعزي القلوب الحزينة.
وبدءً من القرن العاشر الهجري، السادس عشر للميلاد، تغيرت الطريقة فأصبح التنظيم مركزياً، وتولت الأوقاف تنظيمه، والإشراف عليه وضبط الهبات والأعطيات لـه، مما أفقده طابعه الشعبي، وصار أرستقراطياً، يبتعد شيئاً فشيئاً عن روح مؤسسه جلال الدين الرومي.‏
ويبدو أن خوف السلاطين العثمانيين من مواقف بعض الفرق الصوفية جعلهم يدعمون الطريقة المولوية في مواجهة الحركات والفرق الأخرى، ومن هنا أصبحت هذه الطريقة في القرن الثامن عشر جزءً من مؤسسات الدولة العثمانية.
وفي سنة 1925م قمع أتاتورك كل الطرق في تركية، فأصبحت تكية حلب مركزاً للتكايا الأخر بعد قونية، ثم استولت الأوقاف التركية على ممتلكاتها، وتحولت أكثر التكايا إلى متاحف، ورغم ذلك فما زال هنالك مراكز للطريقة المولوية في مصر، وقبرص وليبيا وغيرها.‏


الموسيقى و السماع و رمزيتهما في الطريقة المولوية :
انتشر تأثير الطريقة المولوية في رقعة شاسعة من الأرض، تمتد ما بين أذربيجان إلى فينا ومع انتشار التكايا انتشر كتاب المثنوي، وأصبح له شعراؤه العظام، ومنهم:‏  إبراهيم بك، وسلطان ديواني، وأرزي وديدي، وشيخ غالب وسواهم. من أهمّ المواضيع التي عالجها المثنوي قضيّة الإنسان و أصله الإلهي و حنينه الدائم و عودته الشعورية إلى هذا الأصل التي تبدو واضحة في افتتاحية المثنوي، أو "أنشودة الناي" تماما مثلما يحنّ الناي إلى غصن الشجرة التي قُطِع منها. و بالسماع تذكير الإنسان بيوم الميثاق و حالته السماوية السابقة، استمعوا إليه و هو يقول :
بشنو  از  نى  ﭼون  حكايت  مى كند          از    جدائيها    شكايت    مى  كند
كز    نيستان    تا     مرا    ببريده اند          از   نفيرم   مرد   و   زن   ناليده اند
سينه  خواهم  شرحه  شرحه  از  فراق         تا    ﺑﮕويم    شرح     درد     اشتياق
هر كسى كو دور ماند از اصل خويش         باز  جويد   روز  ﮔار   وصل  خويش
من     بهر    جمعيتى     نالان     شدم         جفت  بدحالان  و  خوش حالان شدم
هر  كسى   از  ظن  خود  شد يار من          از   درون    من    نجست   اسرار من[12]
أي :   استمع للناي كيف يقصّ حكايته، فهو يشكو آلام الفراق قائلا:
       إنني منذ قُطعتُ من منبت الغاب، و الناس رجالا و نساء يبكون لبكائي.
       إني أنشد صدراً مزّقه الفراق حتى أشرح له ألم الاشتياق.
      فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن زمان وصله.
      لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع و نادٍ و صرتُ قريناً للبائسين و السعداء.
     و قد ظنَّ كل إنسان أنه أصبح رفيقاً و لكنّ أحدا لم ينقّب عمّا كَمُن في باطني من أسرار.
     إن صوت الناي هذا نارٌ لا هواء، فلا عاش من لم تضطرم في قلبه هذه النار.
     و هذه النار التي حلَّت في الناي هي نار العشق.
و الحديث عن الناي يحيلنا مباشرة إلى الحديث عن الموسيقى التي شغف بها مولانا، و من هنا حضورها الطاغي في شعره، فقد كان يحسن العزف على أكثر من آلة موسيقية، كما كان يستعين بها و هو يلقي قصائده على مريديه أثناء مجالس السماع. فلا غرو إذن أن تكتسي الموسيقى كل تلك الأهميّة في تجربته الروحية، و لا غرابة أن يشبّهها بصرير باب الجنّة و هو يُفتح على مصراعيه. و قد انتشرت الموسيقى المولوية، ورقص السماع، وأثرت التقاليد الفنية للطريقة في فني الرسم والخط.‏ ويعد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية. وهو طقس له رمزيته، فالثياب البيض التي يرتديها الراقصون ترمز إلى الأكفان، والمعاطف السود ترمز إلى القبر، وقلنسوة اللباد ترمز إلى شاهدة القبر، والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة، والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى المراحل الثلاث في التقرب إلى الله، وهي طريق العلم، والطريق إلى الرؤية والطريق المؤدي إلى الوصال. وسقوط المعاطف السود يعني الخلاص، والتطهر من الدنيا، وتذكر الطبول بالصور يوم القيامة. ودائرة الراقصين تقسم على نصفي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر قوس الصعود، أي صعود الروح إلى بارئها. ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها، أما حركة الدراويش حول الباحة فتمثل القانون الكوني، ودوران الكواكب حول الشمس وحول مركزها.
لم يكن جلال الدين الرومي هو أوّل من أدخل السماع إلى حلقات الذكر، و لكنه كان الأكثر احتفاء به، أمّا أوّل من نظم حلقات المولوية في صورتها التي تعرف بها الآن فهو ابنه سلطان ولد، فأصبحت قونية في عهده مركزاً يضم التكية الأم بعد إنشاء عدد من التكايا في المدن الأخرى.
 و تقوم الطريقة المولوية على عناصر ثلاثة أساسية هي الموسيقي و الرّقص و إنشاد الشعر و تحديداً شعر مؤسّسها مولانا جلال الدين، و قد تعدّى تأثير هذه الطريقة حدود الحلقات الصوفيّة ليشمل فنونا أخرى كالأدب و الرّسم و الخط، يشهد على ذلك كثرة الشعراء الفرس و الأتراك ممّن حذوا حذو مولانا في غزلياته و ما تحتويه المكتبات و المتاحف و منها متحف قونية ـ من كنوز و مخطوطات نادرة من بينها المخطوط الأوّل للمثنوي ذي المنمنمات الرّائعة و المزيّن بالذهب.
     و حلقات السماع، بما فيها من رقص، هي تجربة كونية، و طريقة للوصول إلى الحقيقة أي الله. و هو ما عبّر عنه جلال الدين الرومي نفسه عندما قال: «هناك طرق عديدة تؤدّي إلى الله و قد اخترت طريق الرقّص و الموسيقى». و من أقواله الأخرى المأثورة عن الموسيقى قوله: «في توقيعات الموسيقي يختبئ سرّ لو كشفت عنه لتزعزع العالم»، و يضيف متحدثّا عن الرّباب: «إنّها ليست سوى وتر يابس و خشب يابس و جلد يابس لكن منها يخرج صوت المحبوب».
     و ترمز الرّقصة الدائريّة التي يؤديها الدراويش ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى دورة المجرات في الفضاء الشاسع، و إلى كل ما يتحرك في الطبيعة من كائنات. أما حفل السماع فيجري على النحو التالي، يدخل الرّاقصون إلى الحلبة مرتدين ثنايا بيضاء هي رمز للكفن و قد تجلببوا بمعطف أسود يمثل القبر و على رؤوسهم قلنسوة طويلة من اللّبد هي صورة لشاهدة القبر. ثم يدخل بعدهم الشيخ الذي يمثّل الوسيط بين الأرض و السماء، فيحييّ و يجلس على السجادة الحمراء التي يذكّرنا لونها بلون الشمس الغاربة و هي تنشر آخر أشعتها على مدينة قونية يوم وفاة مولانا. ثمّ يشرع المغنون في ترديد مدائح و أذكار منتقاة من أشعار جلال الدين الرومي، عندها يتقدّم الدراويش ببطء و يطوفون ثلاث مرّات حول السجادة الحمراء و يرمز عدد الدورات إلى المراحل الثلاث التي تقرّب السالك من الله و هي: طريق العلم أو الشريعة، و طريق الرّؤية أي علم الباطن و طريق المعرفة الحقيقيّة و الاتحاد مع الله.
في نهاية الدورة الثالثة يتّخذ الشيخ مكانه على السجادة فيتخلى الدراويش عن جلبابهم الأسود ليظهروا بلباسهم الأبيض و كأنهم تحرّروا من جسدهم المادي من أجل ولادة جديدة، في تلك اللحظة يأذن لهم الشيخ بالرقّص فيطفقون يدورون ببطء، و قد مدّوا أذرعهم كالأجنحة: اليد اليمنى و كفها إلى السماء و اليسرى و كفها إلى الأرض. و هذه الحركة هي كناية عن أن الدرويش يتلقّى الطاقة الحيوية من السماء ليمنحها إلى الأرض في عملية خيميائيّة يملك وحده أسرارها.
و عند بدء الدورة الثالثة يدخل الشيخ الحلقة لأداء رقصته، فيتسارع إيقاع الآلات، ثم يبدأ الدوران في مركز الدائرة فيكون بمثابة الشمس و إشعاعها، و هذه اللحظة هي لحظة التحقق القصوى و الاتحاد مع المطلق و عندما ينتهي الشيخ من الرقص و يعود إلى مكانه تتوقف الآلات عن العزف و يشرع المنشدون في ترتيل القرآن إيذاناً باختتام مجلس السماع. و الرّقص في حلقات السماع هو، أوّلا و أخيراً، تحرير للجسد وانفلات من قيود المادة بحيث يصبح الرّاقص، و هو يدور حول نفسه، هو النقطة و الدائرة معاً ـ أي محور العالم، و من خلاله تلتقي السماء بالأرض و تبدآن حركتهما فيكون السماع، و الحال هذه، مرآة أوسع هي حركة الأكوان المرئيّة و غير المرئيّة. أمّا الموسيقى المصاحبة فإنها كناية عن تناغم هذه الأكوان فيما بينها في نظام محكم هو أسطع دليل على وحدانيّة الخالق.






المراجع المعتمدة  
1/ تاريخ الأدب في إيران، إدوارد براون، ترجمة إبراهيم الشواربي، الطبعة 2004.
 2/ تذكرة الأولياء، فريد الدين العطار، طهران 1374ش.‏
3/ ديوان شمس تبريزي، جلال الدين الرومي، تحقيق عزيز الله كاسب، الطبعة الثالثة، 1382ش.
4/ المثنوي المعنوي، جلال الدين الرومي، تصحيح نيكلسون، طبعة 1933 في ليدن.
5/ نفحات الأنس من حضرات القدس، عبد الرحمن الجامي، تصحيح مهدي توحيدي بور، طهران، 1336ش.  

الهوامش

[1]  أستاذ اللغة الفارسية و آدابها و باحث في الدراسات الشرقية بكلية الآداب بالجديدة.
[2]  من بين أكبر شعراء الصوفية لدى الفرس، ترك مؤلفات عديدة تبقى منها حوالي ثلاثين مؤلفاً أشهرها منظومته الرمزية "منطق الطير".
[3]  هو أبو المجد مجدود بن آدم، و يعتبر أول الشعراء المتصوفين الثلاثة العظام ممّن كتبوا المثنويات في إيران.
[4]  ثالث الشعراء النابهين الذين عاشوا في العصر المغولي الأول، و أستاذ الشعر المثنوي الرومانتيكي الذي برز على كل الشعراء في فنه فاكتسب به شهرة عريضة خلدت ذكره في إيران و في تركية أيضاً.
[5] من كبار شعراء اللغة الفارسية في القرن التاسع، و به يختتم عهد الشعر الذهبي الإيراني.
[6]  نفحات الأنس، عبد الرحمن الجامي، ص : 699.
[7]  المثنوي المعنوي، جلال الدين الرومي، الدفتر الأول، ص : 79.
[8]  محمد بن علي بن ملك داد المدعو شمس الدين التبريزي (582_645هـ)، الصوفي المغمور و الدرويش الجوال.
[9]  ديوان شمس تبريزي، جلال الدين الرومي، ص : 561.
[10]  ديوان شمس التبريزي كتبه تخليداّ لذكرى صديقه و موجّهه الروحي. و تنضوي قصائد هذا الديوان تحت ما يسمى بالغزل الصوفي و هو فنّ قائم بذاته برع فيه الشعراء الفرس إلى جانب براعتهم في فنّ آخر و هو الرباعيات.
[11]  ديوان شعر ضخم يضم نحواً من خمسة وأربعين ألف بيت، مقسم على ستة أجزاء، وقد جاء اسمه (المثنوي) من الوزن العروضي الخاص المستخدم في نظمه، ويتألف من أبيات مفردة مقسمة على شطرين مقفّيين، ينطوي كل منهما على عشرة مقاطع، ومضمون المثنوي حكايات وأحاديث نبوية وأساطير، وموضوعات من التراث الشعبي، ومقتبسات قرآنية، وهو ملحمة صوفية.

[12]  المثنوي المعنوي، جلال الدين الرومي، ج 1 ص : 1.

ترجمة مختارات من ديوان شمس تبريزي

مختارات من ديوان «شمس تبريزي» 
لمولانا جلال الدين الرومي
ترجمة عاشور الطويبي
المصدر: موقع شيرازيات




جلال الدين الرومي، المشهور بـ«مولانا»، ولد في الطرف الشرقي للإمبراطورية الفارسية، في ما يُعرف الآن بأفغانستان، في مدينة بلخ سنة 1207م. الرومي سليل فقهاء كبار. هرباً من ظلم الاجتياح المغولي نزحت عائلته إلى أن وصلت مدينة قونيا بتركيا. ومن طرائف ما يُروى أن الصوفي الكبير فريد الدين العطار صاحب «منطق الطير» شاهده في دمشق يسير خلف أبيه، فقال: «محيط يسير خلف بحر».
تابع مولانا جلال الدين الرومي عمل أبيه كفقيه ومُفتٍ إلى أن حدث الانقلاب الكبير في تاريخه الشخصي وتاريخ التصوّف وتاريخ الشعر، وكان ذلك عام 1244م حين التقى بشمس التبريزي، فترك وقار الفقيه الشيخ، وساح مع ألحان الناي، يرقص ويحضر في ذرات الكون روحاً صافية وشعراً عظيماً. كتب مولانا في هذا الصحبة، وتشريفاً لها، آلاف القصائد والرباعيات. وحين غُيِّب عنه حبيب قلبه شمس التبريزي (قيل قُتل) بحث عنه طويلاً. كتب مولانا كتابه العظيم الآخر «المثنوي»، الذي ترجم الدكتور عبد السلام كفافي المجلدَين الأولَين منه في سبعينيات القرن الماضي، وترجمه كاملاً تلميذه الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا في ستة مجلدات ضخمة. ثمة ترجمات عدّة إلى العربية لمختارات من الديوان الكبير، «ديوان شمس تبريز». وهذه ترجمة أخرى أقدمها لمختارات من هذا الشعر الكوني، عن الإنكليزية من ترجمة الأميركي كولمان باركس والتي هي من أحسن الترجمات في اللغة الإنكليزية.


حان الوقت

حان الوقت لننضمَّ إلى مجانينك
المكبّلين معاً بالسلاسل.
حان الوقت لنكون أحراراً تماماً، ومنبوذين.
حان الوقت لنهب أرواحنا،
لنشعل النار في الهياكل ونركض في الشوارع.

حان الوقت لنتخمَّر.
 كيف نتركُ حوض العالم ونذهب إلى الشفة؟
علينا أن نموت لنصير بشراً حقيقيين.

علينا أن نتغيّر رأساً على عقب
كمشط في قمّة شعر امرأة جميلة.

انشرْ جناحَيك كشجرة ترتفع في الحديقة.
بذرة ملقاة على الطريق،
حجر يذوب إلى شمع، شمعة تصير عثّاً.
على رقعة الشطرنج يبارك الملك ثانية بملكته.

حين تقترب كثيراً وجوهنا من مرآة العشق،
علينا ألا نتنفَّس،
أن ننتقل إلى مكان نقي حيث كان المبنى
ونتحسّس الكنز المخبَّأ فينا.

بلا بداية أو نهاية،
نحيا في العاشقين كما الحكاية التي يعرفونها.

لو أنتَ المفتاح،
سنكون أوتاد القفل.

عاشقٌ أنتَ، والعشق خمّارة

كلّ لحظة يصل العشق من كل جانب
لا مزيد من الفرجة.

نرحل من أجل فراغ نقيّ،
السفر مع الأصحاب الذين عاشرناهم ذات مرّة،
ما بعد الملائكة، ما بعد الروحانية، إلى مدينة العظمة مدينتا.

حمِّل. قلْ وداعاً لهذا المكان المغبر،
حظّ فتيّ يسافر أمامنا.

التنازل عن الروح أساس عمل هذه القافلة،
بوجود المختار دليلاً،
الذي جاء القمر يستجديه.

صبيّة متواضعة، رقيقة تتبع عطر شعره.
ينشقُّ القمر. نمرُّ عبره،
طيور الماء ترتفع عالياً لتبحث عن بحيرة أخرى.

أو قل إننا نعيش في بحر العشق،
حيث تعمل الثقة لسدّ قارب الجسد،
لتجعله يدوم لبرهة،
إلى تحطم السفينة المحتوم،
الزواج الكلّي، الموت - الاتحاد.

ذُبْ في الصحبة كسكرانَين يختصمان.

لا تبحث عن العدالة هنا
في الغابة تمنحك روحك الحيوانية
نصيحةً خبيثةً.

اشربْ ما يكفي من الخمر حتى تتوقف عن الكلام.
عاشق أنت، والعشق خمّارة
حيث لا أحد يقوم بعمل ذي معنى.

حتى لو أن الذي تقوله شِعراً
سميكاً كسماكة أكياس سليمان المليئة بالذهب،
لا مغزى له.


تلك أسماؤنا أيضاً

نحن موجة الدفء
في شتاء عنيد.

نحن الشمس،
بكل ألوان الضوء.
نحن الريح.
اليمامات عندما تصيح «كو»،
أين،
تبحث عنا.

العنادل والببغاوات
تبدّل أماكنها
آملة أن تكون قريبة منا.

وصلت كلمة منّا
إلى السمك.
مالت وقفزت.

مِن تلك الإثارة
تواصل الأمواج المجيء.
وأُعطيتْ للروح آذان
لتسمع الأشياء
التي يعجز العقل عن فهمها.

في عالم الروح العظيم،
اسم «محمد»
يُنادَى مع أصحابه الأربعة،
أبو بكر، عمر، عثمان، وعلي.

تلك أسماؤنا أيضاً.
خرجنا من العبودية
بأكوام من قصب السكَّر.
لا حاجة لذكر مصر.

حلاوة حديثنا معاً
هو ما نلوكه ونُحضِّره للعالم.


القدح والجرّة والنهر

البعض يتحدّث عن
القدح والجرّة والنهر
وكيف يعتمد كل منها على الآخر.

ما يسيل في النهر
يملأ القدح،
لكن الخزّاف فقط
مَن يعرف حال القدح.
واحد يشرب من الآخر.

نعلم ما كان
في ماذا
بمَ ترسَّبَ.
بعض الناس السذّج
لم يقتربوا بما يكفي
ليشمّوا المِسك،
هم غير قادرين على الحكم.

مع ذلك يفعلون،
وآخرون يكرّرون
جهلهم.
ماذا نُسمِّي ذلك؟

مرّة أخرى
عطر من جرّة
يقود آلاف الأتراك إلى الجنون،
وكذلك الهندوس،
أو ساحرة تَركَب الجرّة
من مدينة إلى مدينة
ساحرة تضحك على
ساحرات بدون جرار.

حسناً أن تتبع عطراً
تمسكه بنفسك
على طريقك، وحيداً.
دعه يأخذك إلى وجه
مَنْ هرب
من الجرار والأقداح.

لقد سمعت القول القديم
بين السكارى،
أنا عمّ الجرّة.

جدْ واحداً مثل هذا
واجلسْ بجانبه.
لن تكون هناك
ثرثرة غير خبيرة،
ربما لا كلمات.

يترسَّب الصمتُ
في الجرّة الفارغة
كعطر،
كنهر
في فيضان ربيعي.
تلك هي الجرّة
التي كنتَ تبحث عنها.


أنت أيها الفقير، استرخِ قليلاً

أنت أيها الفقير، استرخِ قليلاً.
عقولنا قد توجَّهت إلى الملجأ.

حافّة الجرّة،
الأحمرُ المعتم،
المدينةُ تحترق.
هذا المشط لا ممسك له،
أسنان كلّه.

كل لحظة شمعة
هناك عثّ جديد.
بعض الناس عندما يسمعون
كيف
يجنّ العقل في العشق،
يغلق.

تنقبض قلوبهم.
بلبلة مستسلمة
من بغض الفكر لها
يبتكر مفتاحاً مصنوعاً
من النار
ليحطم
القفل،
الباب،
وكل البيت.

قد مضى من قبل،
جنون العشق
ولم يتبقَّ شيء،
لا حجرات،
لا باب،
لا قفل،
فقط
ملجأ الأصدقاء هذا
المستهوي الساقط
الذي نُسمِّيه شمساً.


لا موت للعاشقين

الحزن الرهيب أنكَ بشر،
لنشربه كلّه، ولكن بفرْقٍ.

نجلس مع الجنيد والبسطامي.
القمر الصاعد لا يمكن تغطيته بسحابة.

لا موت للعاشقين.
مَن الأنا؟
صبيّة رقيقة
تنسلّ إلى الخارج
عندها نسلّ سيف عمل نكران الذات.
هذه الأرض تأكل الرجال والنساء،
مع ذلك بُعثنا لنأكل العالم،
هذا المكان الذي يحاول خداعنا بـ غداً.
انتظر إلى الغد،
الذي نغلبه بالاستمتاع بالآن فقط.

نجتمع في الليل لنحتفل أننا بشر.
أحياناً ندعو الخارجين على القانون إلى الدفّ.

يشرب السمك البحر،
ولا يصير البحر أصغر.
نأكل الغيوم وضوء المساء.
نحن عبيدٌ نذوقُ الخمر الملكي.

جرّة النبيذ في يمينه

روح هذه الجماعة قادمة نحونا،
الشمس على جبهته،
جرّة النبيذ في يمينه،
خطوة بخطوة.

لا تفسد هذه الفرصة
بالتأدُّب والأماني السهلة.
العون الذي طلبناه موجود هنا،
الدعوة للانضمام إلى الأرواح العظيمة.

كل مكان نجتمع فيه
يصير طقساً
على الطريق إلى الكعبة، ما يعني:
اعبرْ سريعاً خلل كينونتك إلى الغياب.

ذاتُ اسمك والشهرةُ يحميانك
مع عروة جديدة كل لحظة.

الهويَّة الشخصية
غمد.
خالق ذلك،
سيف.
حدّه ينزلق إلى الداخل
ويُوحِّد، الغطاء المتهالك
فوق الصلب اللامع،
عشق يُطهِّر عشقاً.


كنتُ ذات يوم غصناً
أخضرَ في الريح

هل تسمع
ما تقوله الآلة الوترية
عن الشوق؟

الشيء ذاته كعود،
كنتُ ذات مرة
غصناً أخضرَ
في الريح.

كلنا بعيدون
عن وطننا.
اللغة
جرس قافلتنا.

لا تتوقف في
أي مكان.
لحظة أن
تتعلّق بمكان،
يُصيبك
الملل منه.

فكّر في التغيرات الكبيرة التي أنجزتها،
من خلية واحدة إلى بشر سويّ.
أبقِ قدمك خفيفةً،
واستمرّ في المسير.

التركي،
العربي،
اليوناني،
كلّ لسان
ريح كانت ماءً.

كما يحمل النسيم
البحر في داخله،
لذا
تحت كل جملة،
«عُدْ إلى المصدر».
العثّ
لا يتجنَّب اللهب.
الملك
يعيش في المدينة.

لِمَ
أحافظ على
رفقة البوم
في المباني الخربة؟

إذا تصرَّف حمارك بجنون ولم يعمل،
استعملْ سوط الثور على رأسه.
سيفهم.

لا تحاول ملاطفته
ليعود إلى رشده.
اضربْه.


الأشجار

الربيع،
لا أحد يبقى ساكناً،
مع كل الرسائل
التي تصل.

نخرج كأننا ذاهبون
للقاء زوّار،
ورود برّية،
أزهار الماء.

ترتخي عقدة محكمة.
شيء ما
كان قد مات
في ديسمبر
يرفع رأساً ويتفتّح.
الأشجار،
القبيلة تجمعها.
مَن لديه فرصة ضدَّ
حشدٍ فخمٍ كهذا؟

قبل هذه القوّة،
البشر كرات جاهز للقطع،
هاموش يطوّح به بعيداً.

الأشجار في صلواتها، الطير في مديحها

إلهي، للهواء رائحة طيّبة هذا اليوم،
مباشرة من غموض أعماق الريف،
رشاقة كألبسة جديدة قُذفت عبر الحديقة،
طبّ مجاني لكل واحد.

الأشجار في صلواتها،
الطير في مديحها،
أوائل البنفسج ساجدة.
كل ما يأتي من الكائن
يعلق في الكائن،
محتاراً، ناسياً
طريق العودة.

رجل يلتفت
ويرى ولادته
يجرُّ نفسه بعيداً
عن الآخرين.
يمتلئ بالضوء،
والألوان تتبدَّل هنا.
يتجرّعها،
وكلّ واحد يسطع بجماله.
لا أقدر على القول
أنني أشعر بألم الآخرين،
عندما يبدو العالم كلّه
بالغ العذوبة.

وجهاً لوجه مع أسد،
أصيرُ لبوة.
أخرج من بيت المال،
 أشعر بالسخاء.
كل من بقي صاحياً في هذا الطقس
لا بدَّ أنه خائف من الناس،
خائف مما سيقولون.

يكفي كلاماً.
لو نأكل الكثير
من الخضار،
سنفوح كما تفوح
الخضروات.

عن الرومي بالعربية

نثر حرف ناطق بالعربية عن لسان بالفارسية... #الرومي_بالعربية