درسٌ من دروس مولانا جلال الدين الرومي
المصدر: المثنوي، مج 2
الترجمة العربية للأستاذ كفافي .
التردد بين المذاهب المختلفة وإيجاد مخرج وطريقة
للخلاص من ذلك
للخلاص من ذلك
فهكذا شأن الناس بالنسبة
للمعرفة، فكل منهم يصف الموصوف الغيبيّ بإحدى الصفات.
فهذا متفلسف يدلي بشرح من
نوع آخر، فيجرّحُ أحدُ الباحثين مقاله.
وثالث يطعن فيهما معا، ورابع
يكاد يُسلم الروح نفاقا.
فكلٌّ منهم يدلى بعلامات
لذلك الطريق، حتى يُظن أنهم ينتمون الى تلك القرية! فلتعلم هذه الحقيقة:
إن هؤلاء جميعا ليسوا على
حق! كما أن هذا القطيع ليس ضالاً من كل الوجوه!
ذلك لأنه بدون الحق لا
يتضح الباطل. فرائحةُ الذهب هي التي أغرت الأبله بزائف النقد [1].
فلو لم يكن النقد الصحيح
منتشرا في الدنيا، فهل كان يمكن اصدار النقد الزائف؟
و لو لم يوجد الصدق فهل كان
يوجد الكذب؟ فهذا الكذب يتلقى من الصدق نورا (يكشفه) .
ان الأعوج يُشترى على أمل
في السوىّ. والسُّم يوضع في السكر، وحينذاك يؤكل.
فلو لم يوجد القمح المحبوب
اللذيذ، فماذا كان يجني بائع الشعير الذى يدعى أنه قمح؟
فلا تقل إن جملة هذه الأقوال
باطلة، فأهل الباطل هم الأحابيل التي تصيد القلب برائحة الحق!
ولا تقل ان كل هذا خيال وضلال،
فليس في العالم خيال بدون حقيقة.
فحقيقةُ ليلة القدر قد احتجبت
بين اليالي، حتى تلتمسها الروح في كل ليلة.
فليست كل الليالي هي ليلة
القدر، أيها الفتى، كما أن كل الليالي لا تخلو من تلك الليلة.
و بين لابسي الدلق لا بد من
فقير واحد، ففتش عنه، ومن وجدته صادقا فتقبله!
فأين المؤمن، صاحب الكياسة
والتمييز، الذى يعرف كيف يميز بين الرجل و بين المخنثين!
ولو لم تكن في هذه الدنيا
سلعٌ معيبة، لكان (ميسورا) لجميع البُله أن يصبحوا تجارا!
ولكان تقويم البضائع أمرا
بالغ اليسر. فحينما لا يوجد العيب، فما الفرق بين القادر (على التقويم) و العاجز عنه؟
ولو كان كل شيء معيبا فلا
جدوى من المعرفة، فما دام كل ما هنالك خشب فلن يوجد العود!
فمن يقل ان جملة الأحوال حق
فهو أحمق! و من يقل ان جملتها باطل فهو شقىّ!
فالأنبياء بتجارتهم قد حققوا
الأرباح وأما تجار الالوان و الروائح فهم عمى تعساء!
فالثعبان يظهر في أعينهم مالا!
ألا فلتمسح جيدا كلتا عينيك!
ولا تنظر الى سرورك بهذا البيع
والربح، بل انظر الى خسران فرعون وثمود!
حول امتحان كل شيء حتى يظهر
ما فيه من خير وشر
إن السماء وهي ذات الرونق
والجلال، قال بشأنها الحق: «ثُمَّ ارْجع اَلْبَصَرَ» .
ولا تقنع بنظرة واحدة من هذا
السقف الميز، بل انظر مرات، «هَلْ تَرىٰ منْ فُطُورٍ» .
وما دام قد أمرك بأن تنظر
مرات إلى هذا السقف المضيء نظر الرجل الباحث عن العيوب،
فقد علمت كم يجب أن يُوجَّه
إلى تلك الأرض المظلمة من التأمل والتمييز، لتكون جديرة بالإعجاب!
وكم يجب على عقولنا أن تتحمل
من عناء لكي نستخلص أهل الصفاء من بين الكدر! إن تجربه الشتاء والخريف، وحرارة الصيف،
والربيع الشبيه بالروح، و الرياح و السحب و البروق، كلها جاءت لتظهر عوارض الفروق،
لتخرج الأرض، الترابية اللون كلَّ ما حملته في جيبها من ياقوت و أحجار.
فكلُّ ما سرقته هذه الأرض
المظلمة من خزانة الحق، ومن بحر الكرم، (يسألها عنه) شرط التقدير قائلين: «قولي الصدق و اذكري ما أخذته ذرة ذرة
!» فيقول اللص، يعنى الأرض:
«لا شيء قط» ، فيأخذ الحاكم في تعذيبها.
فحينا يخاطبها الحاكم بقول
لطيف كالسكر وتارة يعلقها في الهواء و يسومها كل ما هو أسوأ من ذلك، حتى تظهر بين القمر
واللطف تلك الخفايا، بفعل نار الخوف و الرجاء! فهذا الربيع هو لطف الحاكم ذي الكبرياء،
وأما الخريف فهو تخويف الله و تهديده.
وأما الشتاء فهو صليب معنوي،
حتى تكشف عن نفسك أيها اللص الخفيّ!
وكذلك يكون للمجاهد زمان لانبساط القلب، وزمان للقبض و الألم و الغش و
الضغينة
ذلك لأن أبداننا المفطورة من الماء و الطين، منكرة سارقة نور أرواحنا!
والحق تعالى يلقى على أجسادنا الحر و البرد و الألم و العناء أيها الرجل الشجاع.
فالخوف والجوع و النقص في الأموال و البدن كلها من أجل اظهار جوهر الروح!
لقد أطلق هذا الوعد وذاك الوعيد، من أجل الخير والشر اللذين قد امتزجا
بإذنه
فما دام الحق والباطل قد امتزجا، والنقد الصحيح قد امتزج بالنقد الزائف
في جعبة واحدة، فلا بد لهما من محك أحسن اختياره، ومشهود في امتحان الحقائق، حتى يكون
فيصلا ازاء كل مظاهر الزيف، ويكون دستورا لتلك التدبيرات.
فيا أم موسى، أرضعيه ثم ألقيه في اليم ولا تخافي عليه من البلاء!
فكل من شرب من هذا الحليب في يوم: «ألست» ، يستطيع
تمييز الحليب، كموسى (في طفولته)
فإن كنت حريصًا على إعطاء
طفلك التمييز فاغذه الآن بالحليب، كما فعلت أم موسى [2]، حتى يعرف حليب أمه منذ البداية، و لا ينخفض
رأسه سعيا الى مربية خسيسة.
[1] حرفيا: «فالأبله قد اشترى زائف النقد على رائحة
الذهب» ، اى أنه اشتراه على أمل أن يكون نقدا من الذهب الخالص.
[2] رفض
موسى حليب المرضعات، و عرف حليب أمه، كما ورد في قصته بعد أن التقطه آل فرعون. ( فأرضعيه الآن يا أم موسى» . و في ذلك اشارة الى قوله
تعالى: «و أوحينا الى أم موسى أن أرضعيه» . الآية: سورة القصص، ٢٨ : ٧ .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق