قراءة في كتاب “الرومي-
دين الحب” لليلي أنفار (3/3)
السبت 29 تشرين الثاني
(نوفمبر) 2014
المصدر: الأوان
بقلم: عائشة موماد
تعددت القصص والحكاوي
حول لقاء مولانا جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي، لكن ما يهم، كان هو ذلك اللقاء،
ولادة مولانا جلال الدين الرومي الحقيقية التي وثقت بعناية, كان ذلك في 9 نونبر
1244 فيما أطلقته عليه المؤلفة “مرج البحرين” استشهادا بالآية القرآنية. كان ذلك أهم
لقاء في حياة مولانا حتى أننا نجد ابنه سلطان ولد يذكر شمس الدين التبريزي عندما وثق
لسيرة والده قبل ذكر برهان الدين محقق أو جده بهاء الدين ولد.
يقول سلطان ولد في
كتابه ولد نامه:“ بعد انتظار طويل، أخيرا، رأى وجهه وظهرت له الأسرار، واضحة كالنهار.
رأى ما لا يُرى وسمع ما لم يسمعه أحد أبدا. لأنه في اشتياقه قد استنشق عطره، دون حجاب.
وثملا بالعشق وغائبا عن نفسه، أضحى أمامه كل شيء ولا شيء”.
ويذكر شمس الدين التبريزي
لقائه بمولانا في كتابه “مقالات” حيث يقول:
“أول كلامي مع مولانا
كان سؤالي له: إذا كان بايزيد البسطامي صادقا عندما قال أنه كان يسير على نهج المصطفى،
لماذا لم يتصرف مثله ولماذا قال”سبحاني“بدل أن يقول”سبحانك؟“
لأنه كان صافيا وذا
روح مشرقة
فهم مولانا في الحال
ما أردت قوله
أخذ قولي في كامل عمقه
رأى إلى أين يؤدي هذا
الكلام
عذوبة الكلام
أصبح ثملا
ورغم أني لم أدرك ذلك
بنفسي
فتلك الثمالة أثارت
انتباهي لعذوبة كلامي.
لم يرد في مقالات شمس
ولا في مؤلفات سلطان ولد أي جواب لهذا السؤال رغم أن الكثير من كتاب سيرة مولانا قد
حاكوا قصصا حول هذا اللقاء واختلقوا إجابات كان الدافع من ورائها إبراز مكانة مولانا
جلال الدين الرومي.
تقول ليلي أنفار:”البارع
في سؤال شمس أنه لا يستوجب منك اتخاذ أي موقف، بل يطلب من الذي يتقن الاستماع:
ما معنى أن تكونا صادقا؟
ما معنى السير على
نهج الرسول؟
ما معنى نشوة اللقاء؟
أين أنت من معرفتك
بنفسك، أنت الذي تظن أنك تتبع بايزيد والرسول معا؟
أين أنت من السكر والرشد؟
هل فككت طلاسم هذا
التناقض المحوري؟“
في الحقيقة، لا يمكن
تخيل أية إجابة لسؤال بلاغي كهذا، كان الغرض منه الدخول في سكر تواصل خاص بهما فقط.
”شمس الذي يوجد في
موضع وسط “بين مدرسة الشطح ومدرسة الزهد”، لا يعتبر السكر إلا لحظة للترقي الروحي،
ويعتبر أن بايزيد قد توقف في السكر ولم يستطع أو لم يعرف كيف يتجاوز سكره“ل.أ
لكن رغم التشكيك في
صدق تلك الحكايات، ومنها رواية فروزنفر ثم رواية الجامي ، فإنها تظهر ما غيره شمس في
مولانا جلال الدين الرومي.
”بصحبة شمس، لم يقم
فقط باكتشافات جديدة، لقد دخل إلى بعد آخر.......دخل بكل كينونته وسط العشق الإلهي
ووُضع مباشرة في حضرة الله، وهذه التجربة التي لم ينقطع أبدا عن إنشادها أفنته وأعادت
ولادته من جديد“.ل.أ
يقول مولانا في شأن
ذلك:
كنت ميتا، فأصبحت حيا
كنت بكاء، فأصبحت ضحكا
ملك العشق قد أتى وملكي
صار بدون حدود.
قلب شمس حياة مولانا
جلال الدين الرومي رأسا على عقب.
خير دليل على أن شمسا
كان شخصية حقيقية وليس مجرد أسطورة كما زعم البعض، هو اكتشاف مجموعة كتاباته”مقالات“خلال
الأربعينات، والتي تم نشرها في السبعينات.”أصالة وحداثة فكره والاستعارات الي يستخدمها،
مواقفه العنيدة حيث يختلط اللين بالعنف، قوة نثره الشعري، كل ذلك يسهم في جعله جذابا
بشكل استثنائي. ولمرات عديدة، قراءة ذلك النص، يجعلنا نفهم سر الاضطراب الذي أحدثه
في شخصية بمنزلة الرومي“ل.أ.
تعددت ألقاب شمس، فسمي”قطب
الصوفية“و”سيد أولياء الله“و”إمبراطور مجانين العشق“لكن الإسم الذي بقي خالدا كان”شمس
الدين“أو”شمس الحق“. ولعل الأفلاكي كان الوحيد الذي وافانا بالإسم الكامل: مولانا شمس
الحق والدين محمد بن علي بن مالك داد. يقول الأفلاكي في مناقب العارفين:”في مدينة
“تبريز”، كان الصوفية والمعلمون الروحيون يلقبون شيخنا شمس الدين ب“التبريزي” نسبة
إلى المدينة، لكن الرحل ذوي القلوب المضيئة كانوا يلقبونه ب“الطائر”.
غادر شمس مسقط رأسه
تبريز وعاش جوالا ينتقل من مكان إلى مكان، يكسب رزقه من أي عمل أو حرفة لكي لا يكون
شبيها بهؤلاء الدراويش الذين يعيشون على الهبات والصدقات مقابل بضع كلمات من الحكمة.
قابل مجموعة من الشيوخ والعلماء لكنه لم يفصح لأحدهم عن شخصيته الروحية، ولعل ذلك كان
السبب في أنه لم يذكر من طرف أي أحد منهم .
يقول شمس في مقالاته:
ما وراء هؤلاء العلماء
البارزين
الذائعي الصيت بين
الناس والمحتفى بهم فوق منابر الوعظ وفي اللقاءات الروحية
هناك خادمون للحق
يعملون في خفاء.
كان شمس باحثا عن رفيقه
الروحي. لم يجده في تبريز ولا في أي رحلة من رحلاته إلى بغداد أو دمشق أو حلب. كان
يقول:
عندما تركت مدينتي
لم أعثر على أي معلم
لم أجد شيخي
إنه موجود
لكن أنا الذي تركت
مدينتي من أجله
لم أجده
لكن العالم لا يخلو
من المعلمين.
“لكن صوتا داخليا كان
يخبره بأنه سيقابله يوما ما، هناك، في الغرب
وفي جزء آخر من”المقالات“كان
يقول:
سألت الله أن يعرفني
على أصدقائه لأجالسهم
قيل لي من خلال رؤيا:”سوف
تكون صديقا حميما لأحدهم
“سألت،”أين يكون؟
“وفي الليلة الموالية
أتاني الجواب،”إنه في الأناضول“
عندما رأيته بعد ذلك
قيل لي:”لم يحن الوقت بعد“
”كل شيء بأوانه“
تثبت ليلي أنفار من
خلال بحثها أن لقاء شمس بمولانا بقونية لم يكن مجرد صدفة ولم يكن أول لقاء. فمن المرجح
أن شمسا قابل مولانا بدمشق حيث كان يدرس، لكنه هذا الأخير لم يكن بعد على استعداد لتلقي
تعاليم شمس. لكن بعد اللقاء، تغير كل شيء. ترك مولانا حصص الوعظ وابتعد عن مريديه لكي
يهب نفسه كليا لشمس مما أثار الأحقاد ضد هذا الأخير، فكان عليه أن يغادر قونية تاركا
مولانا يقاسي تجربة الفراق المؤلمة.
كان هذا ما ذكره سلطان
ولد في كتاباته، لكن مقالات شمس تذكر غير ذلك حيث يقول في أحد النصوص:
لست قادرا على أن أطلب
منك السفر
لذلك سأتحمل هذا العبء
من أجلك
فالفراق ينضج الروح
بعد الفراق نقول: لماذا
لم أتبع أوامره ونواهيه؟
مقارنة مع ألم الفراق،
كان ذلك سهلا
استطيع أن أسافر خمسين
مرة من أجلك
عندما أرحل
فذلك من أجلك
وإلا ما الفرق عندي
بين الأناضول أو الشام
مكة أو قسطنطينة
لا أبالي بذلك
لكن،
الفراق ينضج الروح
ويكمله.
غرق مولانا في حزن
شديد بعد غياب شمس وابتعد عن كل مظاهر الحياة على عكس ما تخيله المريدون، لكن شمسا”كان
بمثابة الأستاذ الذي يعرف تماما ما ينقص روح تلميذه. كانت هناك مرحلة للانتظار وبعدها
جاء اللقاء، ثم بعد ذلك مرحلة الفراق، وهي المرحلة الأساسية من أجل التدرج نحو العشق.
حقيقة، فإن مولانا عرف تغيرات جذرية عند اكتشاف شمس. وعلى حسب الصورة التي يستعملها
بطريقة مستمرة، فقد جرب “الاحتراق”، لكنه لم يكن في نظر شمس قد غاب واحترق كليا. ففي
الفراغ الذي تركه غياب شمس، يمكن للرومي أن يدرك المكانة الحقيقية للمعشوق، والاحتراق
الفعلي، الذي من دونه، لا يمكن للعشق أن يصل إلى مرحلة النضج ولا يستطيع الروح أن يدرك
الكمال“ل.أ
وبعد الفراق والاشتياق
جاء اللقاء، رجع شمس بصحبة سلطان ولد محققا طلب مولانا، ويمكننا تخيل السعادة التي
أعقبت ألم الهجر، حيث يذكر سلطان ولد في كتاباته:
”جلس مولانا بالقرب
من شمس، كانا مثل شمسين في سمت سماء واحدة. وبدأ شمس بالكلام: قد عاد أخيرا إلى الحياة.
عبر كلامه، الكل كان يطير نحو العشق وينفصل عن ذاته......دام ذلك بعض الوقت: بصحبة
ملوك العالمين، كان الناس أكوابا وكان الملكان كالشراب، كانوا كالليل وكانا هما صباحين
مشرقين. كان الملكان كالربيع وكان الناس كسهل في مرحلة الخصوبة“.
لكن بعد برهة من الزمان،
لم يعد مولانا يجالس أحدا سوى شمس، كما أنه زوجه ابنته بالتبني، فكان ذلك كفيلا بإثارة
أحقاد المريدين حول شمس مدبرين له المكائد للتخلص منه واسترجاع شيخهم الواعظ. اختفى
شمس إذن في أواخر سنة 1247 حسب ما جاء في بعض المراجع، لكن إذا فكرنا في العلاقة التي
كانت تجمعه بمولانا حسب ما استخلصته ليلي أنفار، يصعب علينا تصديق بعض الروايات التي
تقول بهروب شمس خوفا من أعدائه، لم يكن لشمس أن يتخلى عن مولانا من أجل سبب تافه كهذا.
فقط، قد دون في مقالاته أنه ذاهب بدون رجعة. وغادر قونية تاركا مولانا في صراع مع الألم
دونه في الديوان الكبير.
يمكننا أن نتوصل إلى
أن شمسا غادر مولانا فقط لأنه لقنه كل ما يجب تلقينه، وأن الحضور الجسماني لم تعد له
أية فائدة مقارنة بالعلاقة الروحية التي نسجت بينهما إلى الأبد. فالشعلة التي هيجها
شمس ستظل مشتعلة إلى الأبد. لقد أشعل نارا لن تنطفئ وستلتهم العالم عبر شعر مولانا.
وهناك بيت شعري حيث يتحدث شمس إلى مولانا فيقول:
”أنا الريح وأنت النار
أنا الذي أشعلتك“
كانت تلك العلاقة ما
وراء الزمان والمكان والأجساد، وتحولت آلام الفراق وحرقة الاشتياق إلى التحام روحي
قد يفسده تواجد الأجساد. يذكر سلطان ولد نصا مؤثرا حول وصول والده غلى هذه المرحلة:
”لم ير شمس الدين التبريزي
في دمشق، بل رآه بداخله، وقد ظهر كأنه القمر. يقول: مهما تباعدت أجسادنا، دون جسد أو
روح، لسنا سوى نور واحد. إن رأيته أو رأيتني أيها الباحث، فأنا هو وهو أنا.......لماذا
نستمر في قول أنا وهو حيث أنا هو وهو أنا؟ أو كل شيء هو وأنا بداخله. ما آخذه وما أعطيه
منه هو، إنه كالإنسان وأنا كالظل. بدون الإنسان كيف يتواجد الظل؟....إنه كالشمس وأنا
كقطعة صغيرة، إنه كالمحيط وأنا كالقطرة.“
كان مولانا قمرا يعكس
ضوء الشمس الخالدة، ف”في ليل العالم، لم يكن باستطاعة احد أن يتمنى الحصول على نور
شمس لولا مرآة الرومي“وقد جاء ذلك في إحدى مقالات شمس:
”مولانا هو البدر الكامل
لا احد يستطيع الوصول
إلى شمس روحي
لكن القمر سهل البلوغ
لن يستحمل الناظر شعاع
الشمس ونورها
والقمر لا يستطيع الوصول
إلى الشمس
يجب على الشمس أن يذهب
إليه“
ويلاحظ في لأشعار مولانا
أنه يأخد صورة القمر في كثير من الصور المجازية حيث يقول في إحدى رباعياته:
أنت الذي تذيبني، أنا،
قمرك
لقد دعوتني هذا المساء
هل ستأتي بقربي؟
تقول لي:” كن متأكدا،
أنا ملكك، سأجعلك حيان لأني أنا روحك“.
ستبقى علاقة مولانا
بشمس لغزا لن يستطيع احد فكه، لقاء عنيفا لمحيطين فجر إنتاجا أدبيا منقطع النظير، يقول
عنه مولانا في إحدى أغزاله:
أنت سمائي وأنا أرضك
إني مذهول: ماذا قررت
لي أن ألد؟
ماذا تعرف الغرض عن
البذرة التي زرعتها أنت؟
أنت من خصبها
أنت الوحيد الذي يعرف
ما تحمل بداخلها.
كل تلك التعابير المجازية
التي تتحدث عن شمس، سواء كان ماء أو شمسا....الخ، فهي تشرح للمتلقي أن مهمة شمس قد
انتهت وكان لزاما عليه المغادرة .
تقول الباحثة أن الدراسات
والبحوث الأخيرة لعلي موحد”Movahhed“تشير إلى أن شمسا قد توفي ودفن ب”خوي“”Khoy“، مدينة صغيرة بالقرب من تبريز، لكن
لا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته”كان طائرا يتعذر الإمساك به، قادما من اللامكان
متوجها نحو المجهول" ل.أ
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق