المنشورات

الخميس، 18 ديسمبر 2014

رحلة مع مولانا جلال الدين الرومي



عنوان المقال: رحلة مع مولانا جلال الدين الرومي
بقلم: شيماء ملا يوسف - الكويت
المصدر: الحوار المتمدن 

"إن فقدت قلبك في طريق الحب، فرافقني ولا تتأخر، وأنا حصنك المنيع

مقتطفات من هنا، وقصة من هناك، هكذا تعرّفنا على جلال الدين الرومي. 
من منّا لم يحس بكلماته وهي تلامس القلب؟ من منّا لم يتوقف لحظة مشدوها بكلماته؟ من منّا لم يغيّر طريقه إلى طريق الرومي من مجرد قراءة بيت له؟!
الكلام حول جلال الدين الرومي، ليس حديث مثقفين ولا فلاسفة ولا شعراء. لندع العقل يستريح قليلا بحضور الرومي، لأنه ليس كلام منطق، ولا استدلال عقلي، ذلك أن الكلام حول الرومي هو كلام عن تجربته الروحية التي هي فوق الزمان والمكان، ولا مكان فيه إلا للقلب ومشاهدته - المعروف بعلم الإشارة - فلا يمكن للكلمات أن تصف تلك التجارب مباشرة، إلا باستخدام اللغة الرمزية بأدواتها والتي أجادها الرومي. فمثلا، كيف للعقل أن يُفسّرما قاله شمس الدين التبريزي: رأيتُ الله؟! 
الكلام عن الرومي؛ يعني أننا نتكلم عن أعماله، التي هي حول الله، والإنسان، والعالم، والعلاقة المتبادلة بين هذه الحقائق الثلاث، وأساسها حقيقة واحدة: ليس هناك إلا الله – تعالى - الذي ليس كمثله شيئ، لا صورة تحده ولا عقل يسعه، والعالم كله ليس إلا مظهرا لتجلياته. 
"كم هي الكلمات التي يحويها العالم؟ ولكن كلها تحوي معنى واحدا. عندما تكسر الجرة الماء هو الماء" /ديوان.
الرحلة معه ليس بها غير الله، وليس هناك خوف من عقابه ولا رجاء بجنته، فهو يلغي النظرة الدينية التقليدية في معظم الأديان القائمة على مبدأ "الخوف والرجاء"، ويرى أن ما هو قائم عليهما ليس إلا سمّا، وعلاجه لا يكون إلا بالمذهب القائم على الحب. طريق رحلته خال من شعور بالذنب والخطيئة والخوف من النار والهوان. فليس هناك خوف ولا نار إلا نار فراق الحبيب، كما جاء في أبيات افتتاحية المثنوي "قصيدة الناي".
وكأي صوفي آخر في الأديان الأخرى، يرى الرومي أن طريق الوصول إلى السماء - الله - لا يكون إلا عن طريق تبصرات في القلب والنفس الإنسانيين..
"أعبر خلف الصورة، تجاهل الأسماء نحو المعنى"/المثنوي
"خذ الدر واترك المحار" 
الرحلة التي يأخذ مريديه إليها ليست الوصول لمعرفة التكاليف الشرعية من إقامة الصلوات والصيام والحج وأداء بقية العبادات، بل هو يتوق للوصول بهم إلى أعلى مستويات الوعي الروحي، وتكون عندما تدرك الذات أنها ليست إلا إنعكاس لما هو إلهي، فتتخلى عن الصفات البشرية وتتحلى بالصفات الإلهية، وحينها يتجاوز الإنسان حقانية الذات فلا تكون وحدها على حق والبقية على خطأ، ويتجاوز أيضا حقانية الدين، فليس هناك أفضلية دين على آخر، فإن شاء الإنسان أن يسلك طريق النبي محمد من حيث العيش بمجتمع، أو طريق النبي عيسى في التغلب على الشهوات، أو طريق جلال الدين ومذهب الحب " سأل أحدهم: ما العشق؟ أجبت: عندما تصبح مثلنا تعرفه، والعشق محبة بلا حساب، وأنه صفة للحق على الحقيقة!" المثنوي، ليسلك المريد ما يشاء من الطرق التي هي بعدد أنفاس الخلائق، كما جاء في الحديث. وطريق رحلته الروحية مليئ بالصور التي تسهل على مريديه الوصول للعالم الباطني بعد أن يعبر العالم الظاهري، وليس هناك عائق يمنع الوصول والسير بطريقه. فرسائله عالمية؛ لا يحدها دين أو ثقافة أو لغة، ذلك أن حياته وتنقلاته ما بين بلخ ونيسابورودمشق وحلب وبغداد ومكة وقونية، أتاحت له الاطلاع على ثقافات متعددة، كالحثيون والإغريق والرومان والمسيحيون والبوذيون، فقرأ آثارهم الروحية من خلال قصصهم ومعتقداتهم، وكذلك استخدامه للصور والتعابيرمن الحياة اليومية للناس، بأفكارهم وأعمالهم ووجودهم، مما جعله أقرب للناس بدءا من الإنسان البسيط؛ حتى أن مُلهمه الروحي في وقت من الأوقات كان صائغ بسيط يُقال أنه لم يكن يُحسن قراءة سورة الفاتحة، إلى من هم في أعلى مستويات فكرية.
لكن ما يواجهه قُرّاء الرومي، أن كتاباته، وخاصة المثنوي، ذو الأجزاء الستة الضخمة لم تكن بطريقة منظمة وممنهجة، فهو لم يجلس ويكتب وينظم لها، وهذا أوجد ثغرة في فهمه. فنجد أحيانًا التناقض في البيت الواحد، على الرغم من أن بعض الباحثين المستشرقين حاولوا إيجاد خيوط تربط بين أجزائه الست وحكاياته المتداخلة والمتشابكة. لكني أميل إلى الآراء التي ترى أن المثنوي لم يكن مترابطًا، وهذا الرأي الذي كان عليه أغلب الباحثين. 
لا يهدف هذا المقال أو ما بعده من مقالات أنوي نشرها حول جلال الدين الرومي، إلى شرح أو تفسير أو محاولة إيجاد تعاليمه، ومن يقوم بذلك يبتعد عن طريقه كل البعد. ذلك أن الاجتهاد بقراءته والبحث عن المعنى والانتقال من ظاهر كلامه إلى باطنه، هو ما أراده جلال الدين من مريديه،
"لا يحتوي على تفسير لكل مقام ومَنزل، كي يحلق صاحب القلب، بجناح منه"/ المثنوي
ولا بد لمن أراد فهمه أن يقرأه بنفسه ولا يعتمد على تعليقات شُرّاحه. وكلّ ما تعرّف عليه أكثر، شعر بعمقه أكثر، لتعدد المستويات في شعره.
"التوصيف والتحديد لكل مقام ومَنزل، ومع كل صعود صوفي إلى الله"/ مثنوي 
هي مقالات غير منظمة، أسعى من خلالها التعريف بأعماله، وسأعتمد فيها على دراسات قام بها باحثون غربيون، نظرًا لافتقار المكتبة العربية لدراسات جادة حوله. ودور المستشرقون الغربيون بالغ الأثر في تعريف العالم الغربي بجلال الدين الرومي، وربما حتى في تعريفه لنا لما لدراساتهم من عمق، وأذكر منهم: المستشرقة الألمانية آن ماري شيميل (1922-2003) والتي اهتمت بدراسة أعمال الرومي على امتداد أربعين عاما من حياتها، ولها كتاب مميز الشمس المنتصرة. والمستشرق الانجليزي رينولد آلن نيكلسون (1868-1945) عالم الأدب الإسلامي والتصوف، ومن أبرز المترجمين للمثنوي إلى اللغة الانجليزية، والذي نشر ترجمة المثنوي في ثمانية مجلدات على مدى خمسة عشر عاما، وغالبية أبيات المثنوي أقوم بترجمتها من ترجمته المميزة. وكذلك الشاعر الأمريكي كولمان باركس المولود عام 1936 والمهتم بشعراء الصوفية الإيرانيين، والذي ينشر ترجماته حول أشعار الرومي منذ أربعين عاما. وبعد أن كان حكراً على الدول الإسلامية لمدة سبعة قرون باعتباره شخصية صوفية روحية وأدبية مرموقة، لقي الرومي عناية فائقة من المستشرقين قلّما احتلها مفكر أو أديب فارسي. فالمستشرقون، كالبريطاني آرثر اربيري (1905-1969) الذي اهتم بالتصوف والأدب الفارسي وترجم المثنوي بمستوى ترجمة نيكلسون، يصفه بأعظم شاعر صوفي في الإسلام، بينما يراه نيكلسون بأنه أعظم شاعر صوفي على الاطلاق. 
تم الاهتمام بأعمال الرومي بالغرب في القرن العشرين، وزاد الاهتمام به خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، فأشعاره تحظى باهتمام منقطع النظيرمن قِبل الشعوب الغربية. ولدى الغرب، كما لدى العرب، العديد من الترجمات، بعضها بأسلوب رصين وعميق، وبعضها بأسلوب سطحي وتافه، وأحيانًا؛ مبتعدًا عن المعنى الحقيقي، ولكنه عنى الكثير للناس بمختلف توجهاتهم، وليس للصوفية فقط. ما كتبه في المثنوي على سبيل المثال لا يُنظر إليه كنصًّا صوفيا، ذلك لأنه يحوي من الفكر والتراث أكثر مما تحويه النصوص الصوفية، فالنظرة الإنسانية التي يحفها الرومي بالإنسان عند ضعفه وخوفه وقوته وسموه وعشقه، نظرة غير مألوفة في الأدبيات الصوفية. وكما يرى المسلمون السنة أن الرومي سُنيا، يرى المسلمون الشيعة أنه شيعيا، فالزائر إلى ضريحه سيجد أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة وأسماء الأئمة الاثنى عشر منقوشة على سقف قبته. وكما يدعي العرب أن الرومي هو عربي بنسبه –غير مؤكد -إلى أبي بكر الصديق، يرى الأتراك أنه جزء منهم لأنه عاش حياته فيها، والإيرانيون يرون أنه منهم لأنه كتب بلغتهم، والأفغان ينسبونه إليهم لولادته فيها، وفي كتاب للدكتورعناية الله إبلاغ وهو أفغاني، لا يذكر جلال الدين إلا ب"البلخي". 
جلال الدين الرومي أيقونة؛ لكل العاشقين والمؤمنين و الغير مؤمنين، والآن بالإمكان سماع قصائده في الكنائس والمعابد وكذلك في الأغاني، وأيضا نراه في كل أنواع الفنون المختلفة كالرسم والرقص. فأعمال الرومي هي المحيط الذي لا ينضب، وقارؤوه يدركون أن فهمه يعتمد عليهم وحدهم وعلى قدراتهم الخاصة.
"النافذة هي التي تحدد الضوء الداخل إلى البيت، وإن كان ضياء القمر يملئ الشرق والغرب"/ ديوان
فكلما اتسعت نافذتنا في معرفتنا به، امتلأنا بضيائه أكثر. 


جلال الدين:


قبل الرحلة معه، علينا التعرف على جوانب حياة الشيخ الذي..
"صار الشيخ بسبب الفراق مجنون
صار الشيخ المفتي بسبب العشق شاعرا
غدا ثمِلا، رغم أنه كان زاهدا، 
ليس من الخمرة التي كانت في العنب.. لم يشرب سوى خمرة النور/ديوان"
ولد جلال الدين الرومي في الوقت الذي كان المغول يدمرون فيه الامبراطورية الخوارزمية، والتي كانت بلخ، المدينة التي ولد فيها، تابعة لها. بلخ في القرن الثالث عشر كانت من أهم المراكزالثقافية الاسلامية، وقد لعبت دورا مهما في تشكل التصوّف الشرقي لأنها قديما كانت مركزا للبوذية، وأيضا هي موطن لكثير من علماء الاسلام. 
ونظرًا للتقلبات السياسية في بلخ، وما كان عليه الصوفيون من طبيعة متجولة، تكره الراحة الجسدية والاستقرار، قرر بهاء الدين - والد جلال الدين - مغادرة بلخ متوجها الى الغرب. وبعد عشر سنوات في التيه، استقرت العائلة أخيرا في قونية - عاصمة السلاجقة - بدعوة من حاكمها السلجوقي علاء الدين كيقباد، وكان جلال الدين بعمر الرابعة والعشرين تقريبا. كانت قونية ملتقى الحضارات، فهي كالصدى لفلسفة الإغريق والرومان والفقهاء باختلاف توجهاتهم السنية والشيعية والصوفية وكذلك للملحدين، وأيضا كانت قونية كالكثير من الدول الإسلامية تعاني من اضطرابات فكرية وتقلبات سياسية من المغول ومن الحروب الصليبية.
لا يوجد شيئ معروف ومؤكد عن أسرة جلال الدين، وإن كانت بعض المصادر تشير الى رجوع نسبه الى أبي بكر الصديق، وأن أمه تنتمي لأسرة الخوارزمشاهية الحاكمة. 
تعليمه المبكر كان على يد والده بهاء الدين، الذي ينتمي روحيا الى مدرسة أحمد الغزالي، فانجذب جلال الدين إلى التصوّف وأصبح تلميذًا لعدد من مشايخ الصوفية. أما تعليمه لاحقًا كان على يد برهان الدين محقق الترمذي، صديق والده والذي جعله ينقطع في خلوات لفترات بلغت أربعين يومًا مارس خلالها التأمل ليبلغ الصفاء الروحي، وهو مَن نصحه بالسفر إلى سوريا ليجدّد تعليمه ويلتقي بشيوخ الصوفية. ويذكر شمس الدين التبريزي في كتابه "المقالات" أنه التقى بجلال الدين هناك، لكن الثاني لم يكن يعرفه.
بعد وفاة والده، والذي كان يُلقب بسلطان العلماء، تسلّم جلال الدين المهام الدينية التي كان يتولاها والده، إلا أنه لم يبلغ ما بلغه والده من العلوم الدينية. 


شمس الدين التبريزي


كانت نقطة التحول الكبرى في حياته حينما التقى بدرويش متشرد، ذاك اللقاء الذي به احترق شمس تبريز، وكان الرومي هو دخان ذلك. حكايات كثيرة حول اللقاء الذي جعل جلال الدين يُعرف بـ"مولانا" في كل أنحاء العالم. وإحدى الحكايات تقول: 
بينما يسير جلال الدين.. قابله درويش متشرد، فظ، معاد للمجتمع، ناقد له، هائم بلا مأوى، ينتقل من مدينة إلى أخرى، حتى قيل أنه يشاهد في مكانين بوقت واحد - صيغة تدل على كثرة تنقلاته بين المدن - وكان يُلقب بالطائر لأنه لا يستطيع أن يبقى في مكان واحد لفترة طويلة، رجل له قوة روحية لا يضاهيه فيها أحد. ذكر الباحثون ان التبريزي التقى بابن عربي وفخر الدين الرازي وحتى سعدي الشيرازي، كما التقى بشيوخ كبار. كان يبحث عن تلميذ يفوقه. اسمه شمس الحق والدين محمد بن علي بن ملك داد تبريزي. كتب شمس في كتابه "المقالات": أراد العارف الشهير أبا يزيد البسطامي أن يذهب إلى الحج، فقابله درويش مِن البصرة، فقال له: ماذا تريد؟ أجاب البسطامي: مكة لزيارة بيت الله. ردّ الدرويش: تعال طف حولي سبعة أشواط، فإن قلبي هو بيت الله، والكعبة بيت الله، لكن الله لم يدخل بيته بعد أن بناه، وأنه لم يخرج من قلبي حينما بناه.
تدل القصة على أهمية القلب في عالم الحقيقة عند شمس الدين وما له من محل للتجليات الإلهية. لم يكن شمس الدين يهتم بالفقه، فقد وجّه سؤال لجلال الدين: لماذا تأخذ نفسك بدراسة الفقه؟ فأجابه: لأعرف الشرع، قال شمس: أليس الأجدى أن تعرف صاحب الشرع!
حكاية اللقاء.. بينما كان جلال الدين راكبًا دابته وحوله مريديه، أوقفه شمس متسائلا: من هو أعظم شأنا؛ النبي محمد أم أبا يزيد البسطامي؟ رد عليه هازئًا: تعلم أن النبي محمد أعظم شأنًا. فأجابه شمس: لماذا يقول النبي "إلهي لم أعرفك كما يجب أن أعرفك"، بينما البسطامي يقول: أنا الحق؟ قال: إن كأس البسطامي صغير فامتلأ سريعا من معرفة الله، بينما كأس النبي محمد أكبر وظمأه أكبر فلم يمتلئ.
يذكر جلال الدين: بعد هذا اللقاء أحسست أن هوة فتحت في قمة رأسي، وانبعث منها دخان تصاعد الى عرش السماء.
وصف الرومي هذا اللقاء في مكان آخر: 
"لقد رأيتُ الملك ووجهه المضيئ
هو عين الجنة وشمسها 
هو الشافي لكل الخلق
هو الروح، بل العالم الذي يلد الروح.."
على امتداد ست شهور ظل الصوفيان متلازمان، الى الحد الذي جعل كثيرين يتذمرون، لأن الرومي هجر دروسه واصدقاؤه والناس جميعا، وغاب تمامًا في صحبة شمس الدين. وكشأن أي مؤسسة دينية المتسلسلة وفق تسلسل هرمي، هناك الشيخ جلال الدين في الأعلى ومن بعده يأتي المريدين، لكن هؤلاء المريدون لم يقبلوا أن يكون شمس المتعجرف شيخ شيخهم! كذلك، آراء شمس الدين ضد الفقه وللإسلام بصورته التقليدية، زادت من غضب المجتمع عليه، وخاصة بعد أن ألهى جلال الدين عن سيرته كفقيه، وجعله صوفيا غارقا في التصوف.
أحس شمس الدين بحنق القونيين عليه، فغادرها، وتحطم قلب جلال الدين من بعده، صار ينزوي ولا يتكلم إلا عن شمس. يقول فيه: إن شمس هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أدين له في إيماني ويقيني.
وفتَّش عنه في كل مكان، حتى جاء البشير من دمشق ليقول بأن شمس مضى إليها. أرسل جلال الدين ابنه ليأتيه به. وبعد شهور من الفراق التقى العاشقان بعِناق لا يُعرف به مَنْ العاشق ومَنْ المعشوق، فليس وحده جلال الدين من كان عاشقا لشمس، كذلك شمس كان عاشقا له.
بعد عودة شمس، قرر جلال الدين تزويجه من ابنة قام بتربيتها تُدعى "كيميا" لكي يكون شمس بقربه دائما. وظل العاشقان سويا لا يفترقان، إلى أن ماتت كيميا، فرجع الحنق ثانية على شمس، واختفى بعد ذلك، ولم يُرَ. 
تضاربت الأقوال حول اختفائه. أحدهم قال أنه غادر المدينة بعد تهديده بالقتل، وآخر قال إن لعلاء الدين ابن جلال الدين يد في مقتله - وقد ظل الرومي غاضبًا على ابنه، وحتى حينما تُوفي علاء الدين لم يحضر الرومي جنازته -. ورواية مقتل التبريزي أقرب للحقيقة، فمؤخرًا تمت أعمال الحفر في مقام شمس الدين ووُجِد قبر من العهد السلجوقي كما وصفه الأفلاكي في كتابه مناقب العارفين الذي يحوي أخبار جلال الدين الرومي، مما يؤكد رواية مقتله. 
جن جنون جلال الدين بعد اختفاء شمس، وسمع أحدهم يقول أن شمس الدين في سوريا.
"الشخص الذي قال: رأيتُ شمس الدين. سله: أين الطريق إلى السماء؟" /ديوان
"عندما ذهبتُ إلى تبريز، تحدثتُ مع شمس الدين
دون حروف بمئات الأحاديث، في الوحدة الإلهية"/ديوان
"أين الصبر؟ فلو كان الصبر جبل قاف، لتبدد كالثلج بشمس الفراق"/ ديوان
قصيدة تلو الاخرى نظّمها حول الهجر والشوق، لكن شمس لم يرجع. أظهرت أشعار جلال الدين التي نتجت عن هذه التجربة كل مراتب الوجد الصوفي والشوق والتوق دونما حدود..
"أنا ثمل
وأضعت الطريق 
أضعت الأرض، القمر، السماء..
لا تسكب لي كأساً آخر في يدي
اسقني في فمي
فأني أضعت الطريق إلى فمي"
مضى جلال الدين الى سوريا ولم يجده، ولكنه وجد شمس الدين في قلبه مشعًّا كالقمر. ومنذ ذاك الوقت استحال وجود الرومي إلى شعر وموسيقى. لم يهدأ لحظة لا في النهار ولا في الليل، ولم يكف عن ذلك حتى وفاته. وحتى عندما كان على فراش الموت، زاره صديقه برهان الدين التتري، فظلاّ يتكلمان عن شمس التبريزي. 
لقاء لم يدم أكثر من سبع وعشرين شهراً، انطبع أثره على حياة جلال الدين حتى آخر عمره. فقد كان لشمس الدين الدور الجوهري في تشكل حياة الرومي روحياًّ. فقد تغير طريق جلال الدين كليا من بعد اللقاء الملتهب ..
"في يدي دائما كان المصحف 
والآن أمسكتُ بالجغانة - آلة موسيقية - بسبب العشق
في فمي دائما كانت كلمات التسبيح 
والآن الشعر والرباعي والغناء"/ديوان
صحيح أن شمس تبريز هو الحقيقة الإلهية بجمالها التي تجلت في نفس جلال الدين، ولكن الرومي هو الفنان الذي أبدع عندما أُلهم. اللقاء فجأة بين ثري ينتمي لطبقة ارستقراطية وفقير قد يكون له مغزى، أنك لن تعلم من أين يأتيك شمس – الإلهام – من غني أم فقير، من حبيب أم غير حبيب، من متعلم أم جاهل. 


مولانا


وبعد ما يقرب من عشر سنوات من لقائه بشمس، بدأ مولانا في تأليف "غزليات"، وجُمعت لاحقًا في مجلد كبير وسُميت ب"ديوان الكبير"، حيث بلغ مجموع مقاطعها ما يقرب من ال 40000. وربما معظمها قيلت أثناء مجالس السماع "سما" والرقص الصوفي "رقصة الدراويش". 
في هذا الوقت جمعته صداقة روحية مع تلميذه هشام الدين جلبي. وفي أحد المرات سأله حسام الدين: ماذا لو تكتب مثنوي كما كتبه حكيم السنائي غزنوي وفريد الدين العطار – السنائي هو الذي وضع القالب لكل مثنويات الصوفية من بعده، وصارت عملا تعليميا للصوفية في قالب مؤلف من شطرين مقفيين بقافية واحدة، وتحوي قصصًا مختلفة وعديدة، وحكايات وأمثال دون نظام وترتيب، واستخدمها الصوفية في ايران كأداة للتعبيرعن تفكيرهم الصوفي. والعطار هو المعروف بكتابه منطق الطير وكان مولانا متأثرا بهما وتشير بعض المصادر إلى لقاء جمعه بالعطار- فيصبح رفيقا للشعراء والمتجولين ويملأ قلوبهم؟ ابتسم مولانا، وأخرج من عمامته قطعة من الورق كان قد كتب فيها ثمانية عشر بيتًا وهي قصيدة الناي التي افتتح بها المثنوي..
"استمع للناي كيف يقص حكايته
فهو يشكو ألم الفراق في صوت هو شكاية
ويقول إنه منذ قطعوه من الغابة والناس يبكون ببكائه
وصدره يمزقه الفراق"/المثنوي 
بكي حسام الدين فرحًا وألح على مولانا ليكتب، وافقه بشرط أن يكتب حسام الدين ما يمليه عليه مولانا. وبدأ الكتابة بالعمل الضخم "مثنوي معنوي"، وكان حسام الدين ملازمًا له، لم يترك بيتًا انساب على شفتي مولانا إلا وكتبه. يقول حسام الدين: "لم يجر القلم بيده بينما يؤلف المثنوي، فكان يملي علي في المدرسة، في الينابيع، في حمامات قونية، أثناء السماع، في البيت ليل نهار، وبالكاد استطيع مواكبة سرعته، أحيانا يؤلف لأيام، أحيانا لشهور، وفي إحدى المرات توقف لمدة سنتين لم يكتب شيئا. وعند الانتهاء منها، كنت أقرؤها له ليصححها". 
يعتبر المثنوي أعظم تحفة مكتوبة من قِبل إنسان. على أنه يفتقر إلى بناء ممنهج، لكنه ضم كل أنواع النشاطات البشرية من دينية وجنسية وسياسية وثقافية، وذكر بها شخصيات الإنسان بتنوعاته، منها الشخصية المبتذلة ومنها المحترمة. فضلًا عن تفاصيل تاريخية وجغرافية، وطرح العالم الدنيوي الى مستويات راقية من الوعي الكوني. آخذا موضوعاته من أحداث تاريخية وأساطير وسِيَر الأولياء وحكايات شعبية، وأقحم العشق والدعاء، وتأمل في أمثال وأحاديث نبوية. قصص تعود إلى قرون أو لآلاف السنين،فقد اشتمل على قصص لها أصولها القديمة، ولكنه حولها تحولاً كاملاً فتغيرت ملامحها وحفلت بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلفها الأصلي كحكاية فانوس ديجون، الفيلسوف اليوناني والذي كان يحمل معه الفانوس في النهار. يحتوي المثنوي على 25632 بيت شعر، ويقع في ست أجزاء، وظهر جزء سابع لكن بعد تحقيق الباحثون، تبين لهم أنه ليس من كتاباته. يحتوي المثنوي على العديد من الحكايات الرمزية، والتي كان يريد أن يكشف من خلالها الحياة الروحية. المثنوي، إذاً، عمل توجيهي ووعظي، كان يهدف مولانا من خلاله الوصول لأعلى المستويات الروحية، ولم يكن يريد أن يؤسس لمذهب فلسفي.
"كن عنيدًا في معاناتك الروحية، فالكنز مدفون تحت هذا"/ مثنوي
للإشارة، لعب المثنوي دورا رئيسيا في الحياة الفكرية لبلاد فارس على مدى سنوات طويلة، نظراً لأنه كُتِب بالفارسية.
ظل مولانا يملي على حسام الدين ما يكتبه في المثنوي حتى سنوات عمره الأخيرة التي عاشها صوفيا يشع نور العشق من جوانبه، حتى اشتد به المرض، وعجز الأطباء عن علاجه، ولازمه صديقه الطبيب أكمل الدين – شارح كتاب القانون لابن سينا - حتى توفى عن ثمانية وستين عاما. وقد ترك كتابات كالمثنوي، وفيه ما فيه، والمجالس السبعة، ومجموعة الرسائل التي كتبها الى بعض اصدقائه، وديوان شمس الذي كتبه باسم شمس تبريز، وأيضًا ترك مريديه الذين اتبعوا الطريقة المولوية والتي أسسها بصورتها النهائية ولده بهاء الدين الملقب بسلطان ولد، وهو الابن المؤثر لدى الرومي والذي أعطى الصورة الرسمية للطريقة المولوية. دُفن مولانا في قونية بجنازة مهيبة حضرها مختلف الجاليات، ومنها المسيحية واليهودية، حيث كانوا يرددون: كان موسانا.. كان عيسانا.والآن له قبر مشيد بقبة خضراء يُزار إلى اليوم..
"عندما تأتي لقبري 
سيظهر لك قبري المسقوف راقصا
لا تأت من دون دف الى قبري
لأن من استبد به الحزن لا يليق بمائدة الحق"/ ديوان


مصادر البحث:
• الشمس المنتصرة، آن ماري شيميل. مؤسسة الطباعة والنشر.
• المثنوي، ابراهيم السوقي شتا. المجلس الأعلى للثقافة.
• THE MATHNAWI OF MAWLANA JALALADDIN RUMI, Reynold A. Nicholson.
• جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام، الدكتورعناية الله إبلاغ الأفغاني. الدار المصرية اللبنانية.
• RUMI THE MASNAVI, Jawid Mojaddedi. Oxford World"s Classic.
• The Sufi Path of Love. William Chittick. 
• Divane Shams Tabrizi, R. Nicholson. 
• المنتخب من مناقب العارفين في أخبار جلال الدين الرومي، شمس الدين أحمد أفلاكي.
• فيه ما فيه أحاديث مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب.
• The Sufi Doctrine of Rumi, William C. Chittick

هناك تعليق واحد :

  1. وهذا تسميه شعر ؟ اقرأ لـ أمروا القيس والمتنبي وأبو نواس والأعشى والأصمعي والفرزدق وعنترة وأبو تمام الشعر الحقيقي عندهم لا الرومي ولا المريخي

    ردحذف

عن الرومي بالعربية

نثر حرف ناطق بالعربية عن لسان بالفارسية... #الرومي_بالعربية